" نفيسة وأمهات آخريات " هن أم سعد في قصة كنفاني

 

 

بقلم / عبد الناصر فروانة

13-9-2013

 

هندومة ، نفيسة ، غالية ، نجية ، نجاة ، خضرة ، رؤوفة ، صبحة ، فاطمة ، مصيونة ، حفصة ، رفقة ، نورا ، صبحية ....

 

أمهات غزاويات أعرفهن عن قرب ، فهن أمهات ماجدات لأسرى محررين ، أمهات من نوع خاص سطرن أمجاداً ، ومناضلات بكل ما للكلمة من معنى ، عرفن الثورة فعشقتها ، وأرضعن أبنائهن حليب ممزوج بالنضال والكفاح والمقاومة .

 

 أمهات نعجز عن وصفهن بالكلمات المستحقة التي وردت في قاموس اللغة العربية ، أو إيفائهن من الحق ما يليق بمكانتهن وتاريخهن ، أو صبرهن ومعاناتهن .

 

أمهات عظيمات وقدوات ، أنجبن رجالاً أحبوا الوطن وقدموا زهرات شبابهم دفاعاً عن ترابه وفداءً لحريته ، وأبطالاً استحقوا لأن يكونوا نماذج للآخرين .

 

الأولى هي والدة الأسير المحرر جبر وشاح ، والثانية أم شاكر شبات ، والثالثة أم إبراهيم بارود ، وتليهن أم كارم نشوان ، وأم ضياء الفالوجي ، وأم مروان الكفارنة , أم مجدي شقورة ، أم سعدي عمار ، أم غازي النمس ، أم سفيان أبو زايدة ، أم أيمن الفار ، أم محمد العفيفي ، أم نواف عواد وآخرتهن هي أمي وأم أخي .  

 

أمهات غزاويات هن جزء من قائمة طويلة جداً لم تسعفنا الذاكرة في استحضارها كاملة ، ولكل واحدة منهن قصة مع الزمن والألم ، بحاجة إلى كاتب محترف ليخط لنا قصصهم المثيرة وحكاياتهم مع الحياة .

 

بعضهن رحلن دون رجعة وتوارين عن الأنظار فجأة ، دون أن يُسمح لنا بوداعهن ، ودون أن تتاح الفرصة لأبنائهن الأسرى ليقبلهن قبلة الوداع الأخير .

وفقدناهن في الإعتصامات والفعاليات والأنشطة الداعمة والمساندة للأسرى ، وبقيت أماكنهن " شاغرة " في الاعتصام الأسبوعي داخل مقر الصليب الأحمر بغزة .

 

وبعضهن لازلن ينتظرن ما يمكن أن تحمله لهن الأيام القادمة ويتمنين أن يمضين بضع سنوات أو حتى بضعة أيام أو شهور ، بسعادة وهناء مع أبنائهن وأحفادهن دون احتلال وحصار ، وبلا حواجز أو سجون أو أمراض العصر والقهر والانقسام .

 وفي كنف شعب موحد فوق ثرى وطن واحد وحر كما رسموه في مخيلتهن وفي أذهان أبنائهن منذ عقود من الزمن ، وكما حلمن بأن تكون الحياة يوما .

 

ندعو الله عز وجل أن يكتب لهن ما فيه خير ، ويبعد عنهن كل شر أو سوء ، ويشفيهن مما أصابهن من أمراض وهي كثيرة ويمنحهن الصحة والعافية وحياة أفضل وأطال الله في أعمارهن .

 

أمهات غزاويات كُثر تجرعن المرارة و الألم وقسوة السجون ، وعانين من فقر في الدموع بعدما مارسن البكاء لسنوات طويلة ، فأظهرن قدرات خارقة في التحمل والصبر ، وشكلن نماذج حقيقية للأمهات المثاليات ، وجسدن عمليا قول شاعر العرب ، حافظ ابراهيم :

الأم مدرسة إذا أعددتها .... أعددت شعباً طيب الأعراق

 

لم تكرمهن الحكومات الفلسطينية المتعاقبة ، ولا الفصائل والأحزاب ، فيما نحن هنا نجتهد لعلنا نكرمهن ببضع كلمات نخطها على أمل أن نوفق في ايفائهن بجزء مما قدمونه لنا ولشعبنا .

 

 أول أمس رحلت عنا الحاجة نفيسة " أم شاكر " ، تلك المناضلة العريقة التي احتضنت أبنائها وهم صغار بعد موت زوجها ، فأحسنت تربيتهم وأجادت صقلهم ، ونجحت في إرضاعهم حليب الثورة ، وظهرت بصور مختلفة ، فتارة كنت تراها بصورة الأم الحنونة ، وتارة أخرى بصورة الحاضنة للثوار ، وفي مرات كثيرة رأيتها بصورة المقاتلة الشجاعة في شوارع وأزقة وبيارات بيت حانون .

 

و" شاكر " ذاك الصديق العزيز الذي عرفته منذ قرابة ثلاثة عقود ، وعايشته عن قرب فترات عديدة في السجون وخارجها وخضنا ذات مرة وسوياً تجربة تحقيق قاسية ، هو ذاك المناضل العنيد والأسير الرائع ، والصديق العزيز الذي لم يتغير رغم مرور الزمن ، ليغلق أمامك كل الخيارات ، ويبقي فقط خيار التمسك به ، فهو حقاً ذاك الرجل الذي أنجبته تلك المرأة العظيمة .

 

نؤمن أن الموت حق ، فتهون علينا المصائب ، لكن قد يكون الموت قاسي وقاسي جداً حينما يختطف منك أحباء وأصدقاء ، أو أمهات بحجم " نفيسة " .

 

كدت أن أبكي صباح يوم أمس حينما تلقيت خبر وفاتها ، ففي عصر اليوم الذي سبقه كنا نتبادل الحديث مع " شاكر " حولها .

 وكادت الدموع أن تُذرف وأنا في بيت العزاء في بيت حانون واستمع من صديقي شاكر وصفه للحظات الأخيرة التي عايشتها والدته بعدما استحضرنا سيرتها المضيئة عبر العقود الماضية ... .

 

نسأل الله عز وجل أن يتغمدها بواسع رحمته وأن يسكنها فسيح جناته وأن يجعل قبرها من رياض الجنة ، وأن يلهم ذويها وأبنائها وبناتها الصبر والسلوان ،   وان لله وان اليه راجعون .

 

نفيسة لم تكن " أم شاكر " فحسب ، هي أمنا جميعاً ، ووفاءً لها بكى الجميع على فراقها وانتفض الجميع في عزائها ... ومن لم يعرفها من قبل أو لم يسمع عن سيرتها .. أيقن من خلال جنازتها الكبيرة ، ومشاهد بيت عزائها ، بأنها لا تقل أهمية عن قادة عظام ... 

 

" نفيسة " هي " أم سعد " في حكاية غسان كنفاني