في الذكرى الـ 25 لاعتقاله
" مخلص " أخلص لفلسطين ولا زال عنوان لأسرى الداخل ..
* بقلم / عبد الناصر فروانة
12-9-2011
" أسرى الداخل " هم جزء أصيل من الشعب الفلسطيني ، و جزء لا يتجزأ من الحركة الوطنية الأسيرة ، ومدى تمسكنا بهم وسعينا لتحريرهم ، يعزز صمودهم وصمود أهلنا في المناطق التي احتلت عام 1948 ، و يعكس مدى تمسكنا وسعينا لتحرير يافا وحيفا والرملة والمثلث وباقة الغربية وعكا واللد وأم الفحم .
و" اسرائيل " تتعامل معهم على أنهم مواطنين اسرائيليين يحملون الهوية الزرقاء ، وتعتبر اعتقالهم شأناً داخلياً ، وتصفهم كـ " مجرمين " ارتكبوا مخالفات أمنية ، فاستبعدتهم من صفقات التبادل ومن الإفراجات السياسية ولا تزال تُصر على عدم شمولهم ضمن صفقة " شاليط " ، وبذات الوقت هي لم تمنحهم حقوق السجناء الإسرائيليين والامتيازات التي يتمتعون بها ، فهي لا تسمح لهم بالخروج باجازات أو إجراء محادثات هاتفية، والمكوث في غرفة الزيارات مع أبناء العائلة ، أو حتى الخروج للمشاركة في الجنازات وغيرها من الإمتيازات كتحديد المؤبد وافراجات ( الشليش ) ثلثي المدة ، بل ويتعرضون للتمييز داخل جدران السجن وتصدر بحقهم أحكاماً عالية تفوق بأضعاف مضاعفة تلك التي تفرض على مواطنين يهود، كأولئك أيضا الذين قاموا بمخالفات مشابهة أو أكثر شدة "على خلفية قومية".
وتتعامل معهم في سجونها على أنهم فلسطينيين ، وبالتالي تحتجزهم في ظروف قاسية وتُعاملهم بشكل أقسى يحمل مشاعر الإنتقام والحقد والتمييز تجاههم وتصادر منهم أبسط الحقوق الإنسانية والأساسية التي تنص عليها الإتفاقيات والمواثيق الدولية وفي كثير من الأحيان تحاول عزلهم عن باقي الأسرى في أقسام لوحدهم .
" مخلص برغال " هو واحد من هؤلاء الأسرى الذين يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ سنوات طويلة ، بل هو واحد من " عمداء الأسرى " وهو مصطلح يُطلق على من مضى على اعتقالهم أكثر من عشرين عاماً ، ويحتل الرقم ( 57 ) على قائمة قدامى الأسرى عموماً ، كما ويحتل الترتيب الحادي عشر على قائمة قدامى أسرى الداخل وبالأمس دخل عامه الـخامس والعشرين بشكل متواصل ليقترب من الدخول قسرا الى قائمة " جنرالات الصبر " وهو مصطلح يُطلق على من مضى على اعتقالهم ربع قرن وما يزيد .
" مخلص أحمد محمد برغال " ( 49 ) عاما من مواليد مدينة اللد ، وهو ينتمي لعائلة متعلمة ومثقفة ومناضلة مكونة من خمسة اخوة وأخت واحدة وهم ( محمد وهو محامي ويقيم في إنجلترا وسبق أن أمضى 4 سنوات في سجون الإحتلال، ومؤيد الذي درس علم النفس ويعيش في ألمانيا، ومراد ويعيش في أمريكا، ومخلص الأسير منذ 24 عاماً ، وأصغرهم مؤنس إضافة الى الأخت الوحيدة ومعلمة اللغة الإنجليزية عنايات )
اعتقل " مخلص " أوائل الثمانينات وأمضى ثلاثة سنوات ونصف في سجون الإحتلال الإسرائيلي بتهمة التدريب على السلاح والقاء القنابل وبعد خروجه من السجن بحوالي عام ونصف وبالتحديد بتاريخ 11 سبتمبر / أيلول عام 1987 اعتقل للمرة الثانية بتهمة الإنتماء للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وإلقاء قنبلة على حافلة اسرائيلية ، وتعرض في بداية اعتقاله لصنوف مختلفة من التعذيب النفسي والجسدي ، وحكم عليه بالسجن المؤبد ومن ثم حددت بأربعين عاماً ، قضى منها أربعة وعشرين عاماً بالتمام .
وخلال فترة اعتقاله الطويلة تعرض " مخلص " الى مواقف مؤلمة ، وربما كان أصعبها وفاة والده " أبو محمد " عام 1991 ، وتأخير دفنه لبضعة أيام على أمل أن تنجح الجهود بالضغط على ادارة السجون كي تمنحه تصريحا بالخروج المؤقت لوداعه ، إلا أن ادارة السجون أصرت على استمرار التمييز في معاملتها لهم ورفضت ذلك ولم يُسمح للأسير " مخلص " بإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على والده والمشاركة بتشييع جثمانه .
وعلى الرغم من المواقف الصعبة والمؤلمة التي تعرض لها " مخلص " إلا أنه بقىّ مخلصا كما عرفناه ، شامخا وصلبا كما تعودنا أن نراه ، منتصب القامة ومرفوع الهامة كما عاهدنا دوما بأن يكون ، لم يتغير ولن تنهار ارادته أو تهبط معنوياته رغم سنوات السجن الطويلة .
فسار بثبات وتحمل المعاناة وتجاوز المحن ، وجعل من السجن " منحة " فدرس وتعلم واستغل الحق في التعليم الجامعى عبر الإنتساب للجدامعة العبرية قبل أن يوقفها " نتانياهو " ، رغم كل العراقيل والمعيقات التي كانت تضعها ادارة السجون في السابق وحصل على درجة الماجستير بامتياز ورسالته كانت بعنوان " دراسات في الديمقراطية " .
واذا كانت سنوات الأسر لم تنل ولن تنل من عزيمته ، فانها وللأسف نالت من جسده الذي داهمته العديد من الأمراض جراء الأوضاع القاسية وسوء التغذية والإهمال الطبي ، ولم يعد الجسد يحتمل آلام الأمراض التي داهمته ، في ظل انعدام الرعاية الطبية اللازمة وشحة الأدوية والمسكنات الضرورية ، على الرغم أن " مخلص " وقبل اعتقاله كان رياضياً وكما يقول " وليد أيوب " في احدى مقالاته عام 2006 ، بأن ( مخلص كان بطلا في رياضة الملاكمة وحقق ثلاثة انتصارات بالضربة القاضية من أصل أربع مباريات خاضها فيما انتهت الرابعة بالتعادل بالنقاط علما أنه نافس بطلا مخضرما ومن وزن يفوق وزنه ) ..
أما الدته الحاجة " أم محمد برغال " فلقد تجاوزت الثمانين عاماً من عمرها ، أنهكت قواها السجون المتعددة ، وأرهقتها الزيارات وما يتخللها من سفر واجراءات تعسفية وتنقلات لم يبق سجن إلا وأن وقفت على بوابته ، وزاد الحرمان من معاناتها وجرح السجن فؤادها ، وأدخلتها أخبار الأسرى الساخنة في حالة من القلق الدائم على ابنها " مخلص " ورفاقه الأسرى ، وزاد من معاناتها في الأسابيع الأخيرة اقدام ادارة سجن شطة على عزل ابنها " مخلص " في زنزانة انفرادية عقابا له بسبب اخراجه رساله لها بعنوان " أماه.. لا أملك أن أنصفك" ، كتب لها فيها بعض كلمات المحبة والتقدير ومما جاء فيها ( واكتشفت انني اكتشفت مرة أخرى وأخرى وأخرى سر حياتي .. سر قوتي ومنبعها ... أمي .
أمي الجسد تعبت .. بدت في عيونها وعلى وجهها قساوة القدر .. أعياها المرض وأثقل كاهلها الزمن ، أما أمي فلم تزدد إلا نضارة واشعاعا ووهجا وبهاء ، كنز من كنوز الأرض .. أمي ، أم الحكايات والروايات )
فيما " صفقة " شاليط " تُنعش آمالها ، على أمل أن تلتقي بنجلها وتحتضنه دون قضبان قبل رحيلها الأبدي ، فهل ستحقق صفقة " شاليط " أملها ، أم ستكرس واقعا مريرا كان ولا يزال وسيبقى مرفوضا .
" مخلص " أخلص لقضية فلسطين ، وعشق المقاومة ، وأصر على التمسك بهويته الفلسطينية ، وأمضى سنوات عمره في النضال من أجلها ، وقضى في السجن من السنوات ما تفوق بكثير مما أمضاه خارج السجن ، والأسئلة التي تقفز للذهن هذه الأيام هل سنُخلص لـ " مخلص " ورفاقه سامي وكريم وماهر يونس ووليد دقة ورشدي أبو مخ وغيرهم من أسرى الداخل ..؟ وهل ستنجح " صفقة شاليط " في تحقيق ما عجزت عن تحقيقه صفقات التبادل التي جرت بعد العام 1985 ، وهل سيستمر آسري " شاليط " في اصرارهم بالتمسك بحرية " مخلص " ورفاقه القدامى كل القدامى كجزء من ثمن حرية " شاليط " ..؟
الأيام هي وحدها التي ستجيب على تلك اللتساؤلات .. لكننا لم نقبل سوى اجابة واحد بـ ( نعم ) وما دون ذلك غير مقبول فلسطينيا ، وأظن بأن آسري " شاليط " لم ولن يقبلوا بغير ذلك .