حين استشهد، كنت هناك، أسيراً معذباً شاهداً

خالد الشيخ علي: اختار الصمود، فاختاروا له الموت، ونال الشهادة

 

بقلم/ عبد الناصر عوني فروانة

أسير محرر وباحث مختص بشؤون الأسرى

18-12-2018
 

اذا كان من حق الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أن تفخر بأنها من أسست فلسفة المواجهة خلف القضبان، وعززت  ثقافة الصمود في أقبية التحقيق، حين قدمت العديد من المقولات الخالدة، والنماذج البشرية من الشهداء على هذا الطريق، وسطرت تجارب فردية وجماعية عديدة في هذا السياق، فان من حق الفصائل الفلسطينية أن تفخر هي الأخرى بأن لديها من التجارب الكثيرة في الصمود والبسالة وعدم الاعتراف في أقبية التحقيق، وأن العديد من عناصرها وقياداتها سجلوا انتصارات مبهرة في هذا الصدد، إذ فضلوا التضحية بالحياة، على أن تتحرك عضلة ألسنتهم بالبوح عن نشاط المناضلين ولو بكلمة واحدة، سبيلا عن الخلاص الفردي.

ودعونا اليوم نتأمل في تجربة نوعية، اجترحها أحد أعضاء حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، واسمه "خالد الشيخ علي". فمن حق حركته واخوانه ورفاق دربه أن يفتخروا به وبصموده الأسطوري دوما، وتجربته المشرقة التي شكلت منارة للآخرين في مقاومة السجان. كما ومن حقهم أن يفتخروا اليوم بأن من فجر في السجون موجة الاضرابات الفردية عن الطعام خلال الست سنوات الأخيرة ، هم من عناصر "الجهاد الإسلامي" وقياداته.  

"خالد كامل الشيخ علي" شاب فلسطيني ينحدر من عائلة هاجرت من عسقلان بعد النكبة عام 1948م واستقرت بها الحال في مخيم رفح جنوب قطاع غزة، فولد شهدينا هناك في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1962، قبل أن تنتقل الأسرة ويستقر بها الحال للعيش في مدينة غزة. فانتمى لفلسطين الأرض والهوية، قبل أن يتخذ من الجهاد طريقاً، ومن حركة الجهاد الاسلامي أداة لممارسة واجبه الوطني والإسلامي في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. فكان أحد أبطالها، وواحد من أولئك الذين اتخذوا من خيار المقاومة والجهاد نهجاً استراتيجيا، حتى النصر أو الاستشهاد. فكان له ما أراد و ما كان يحلم بتحقيقه. وسجل اسمه بحروف من نور في سجل من حققوا النصر والشهادة في أصعب الظروف وأكثرها قهراً. في أقبية التحقيق.

اعتقل "خالد" على خلفية اتهامه بالمشاركة والمسؤولية عن عملية الشيخ عجلين التي أعلنت حركة الجهاد الاسلامي مسؤوليتها عن تنفيذها في السادس عشر من تشرين ثاني/نوفمبر عام1989 وقتل فيها جنديين اسرائيليين، وتعرض منذ لحظة اعتقاله الى صنوف مختلفة وقاسية من التعذيب، قبل أن يُنقل الى قسم التحقيق في سجن غزة المركزي والذي كان يُصف بـ"المسلخ"، ويمارس بحقه أبشع أساليب التعذيب بهدف انتزاع الاعترافات منه وتقديم المعلومات عن باقي أفراد مجموعاته ورفاقه في المقاومة الفلسطينية، إلا أن الشهيد تسلح بقضية عادلة، وبإيمان راسخ بحتمية الانتصار، واصر على أن يُبقي عضلة لسانه ساكنة دون حركة، وأن يصون اسرار حركته وأخبار اخوانه في الجهاد والمقاومة، فاختار الصمود وحقق الانتصار على جلاديه، فنال الشهادة. وما أروع الشهادة في سبيل الله والوطن والقضية، بعد نصر تحقق في معركة غير متكافئة وفي ظروف هي الأقسى. حطمت فيها وحشية السجان وقُهرت (اسطورته).

حين استشهد خالد، كنت هناك، أسيراً معذباً شاهداً على الحادثة. ومعي نحو عشرين أسيرا مصطفين على جانبي الممر، او كما كنا نُطلق عليه (الباص). وعلى الرغم من وجود الأكياس النتنة ذات الألوان الداكنة على رؤوسنا، إلا أننا شعرنا ودون جهد  باستنفار رجال المخابرات، وأن صرخاتهم واصواتهم صدحت عاليا في المكان ولا زالت ترن في آذاننا، وفجأة جاءوا ووضعوا حاجزاً بشريا خلفنا كي لا يرى أي منا ولو مشهد واحد من ثقب محتمل في الكيس،. واحسست حينها أن شيئا كبيرا قد حدث. لكننا فهمنا من أحاديثهم بالعبرية بأن شيئاً ما قد حصل لأحد الأسرى. هم لا يريدون له أن يموت قبل أن يفشي بما لديه من اسرار ومعلومات رغما عنه تحت وطأة التعذيب وبشاعته.  كان ذلك في مثل هذه الأيام الباردة وفي التاسع عشر من شهر كانون أول/ديسمبر عام 1989، ليرتقي "خالد" شهيداً نحو العلا ، ويلتحق بشهداء فلسطين الأبرار، ويسجل اسمه بفخر وعزة في سجل الخالدين وقائمة شهداء الحركة الأسيرة.

لقد كان قد مضى على وجودي في المسلخ بشكل متواصل قرابة الثلاث شهور. واذكر ذلك اليوم بتفاصيله جيدا وبوضوح تام وكأنه صورة امامي. كما واذكر تلك الفترة القاسية في مسيرة التحقيق وبشهادة من اعتقل وتعرض للتعذيب في فترات سابقة. واعتقد جازما بأن كل من مرّوا على غرف تحقيق غزة في تلك الفترة، وأيا كانت تهمتهم أو انتماءاتهم، يدركون ما أقول. فالتجربة جماعية، والألم أصاب الكل، والقسوة طالت كافة المعتقلين من مختلف التنظيمات الوطنية والإسلامية. حقا كانت صعبة وقاسية واستشهد خلالها وجراء التعذيب في سجن غزة ثلاثة أسرى، وهم (جمال أبو شرخ، خالد الشيخ علي، عطية الزعانين).

لقد مت يا خالد. ورحل جسدك عن أهلك وزوجتك وطفلتك، وتركت مكانك فارغا بين أصدقائك وأحبائك واخوانك، لكنك بقيت وستبقى خالدا، ليس فقط في قلوب أسرتك ومن عايشك وعرفك وشاركك النضال، وفي قلوب اخوانك في حركة الجهاد الإسلامي، بل ستبقى خالداً في قلوبنا جميعا، في قلوب كل الفلسطينيين وأحرار العالم أجمع، فنم قرير العين يا بطل.

 

 

تنويه: المقال سبق ونشر من قبل، ونعيد نشره مع اجراء تعديلات طفيفة عليه