800  معتقل إداري في سجون الاحتلال وثلاثون منهم يضربون دقاً لجدار الخزان

 

*المؤلف:عبد الناصر عوني فروانة

الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية

 

11/10/2022

 

يخوض ثلاثون معتقلاً فلسطينياً، بينهم الأب والزوج، ومنهم الطالب والصحافي والمحامي والمهندس والناشط الاجتماعي والمناضل السياسي والأسير السابق، إضراباً جماعياً ومفتوحاً عن الطعام، منذ الخامس والعشرين من أيلول/سبتمبر الماضي، احتجاجاً على مصادرة حرياتهم واستمرار اعتقالهم إدارياً، وعلى السياسة التي أمضى بموجبها آلاف الفلسطينيين أعواماً طويلة من أعمارهم خلف قضبان سجون الاحتلال الإسرائيلي، من دون توجيه تُهم ضدهم بصورة رسمية، أو تقديمهم لمحاكمات عادلة.

استعاد ثلاثون معتقلاً إدارياً ينتمون إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين زمام المبادرة، وأمسكوا بخيار المقاومة، ودقوا جدران الخزان، عملاً بوصية رفيقهم الأديب الشهيد غسان كنفاني في روايته "رجالٌ في الشمس". فجاء إضرابهم نموذجياً جماعياً غير مسبوق، يحمل بُعداً وطنياً شاملاً، وليس حزبياً ضيقاً، سعياً لمعالجة قضايا ذات علاقة بالجماعة، وليس بحثاً عن حلول شخصية تتعلق بالشخص المُضرب، ليسطّروا بذلك تجربة نضالية مشرقة في مواجهة "الاعتقال الإداري".

 

ما هو "الاعتقال الإداري"، ولماذا يناضل الفلسطينيون لإسقاطه؟

يُعرَّف الاعتقال الإداري بأنه: عملية قيام السلطة التنفيذية باعتقال شخص ما، وحرمانه من حريته، من دون توجيه أي تهمة محددة ضده، بصورة رسمية، ومن دون تقديمه إلى المحاكمة، وذلك عن طريق استخدام إجراءات إدارية.

ويُعدّ "الاعتقال الإداري" تدبيراً شديد القسوة للسيطرة على الأمور، والوسيلة الأكثر تطرفاً، ويُعتبر إجراءً شاذاً واستثنائياً، لأن المبدأ العام للقانون يقول: إن حرية الأشخاص هي القاعدة. وذلك على افتراض أن نظام العدالة الجنائية قادر على معالجة مسألة الأشخاص المشتبه في أنهم يمثلون خطراً على الأمن العام.

إلا إن دولة الاحتلال الإسرائيلي جعلت منه قاعدة، لا استثناء، وإجراءً ثابتاً وروتينياً وجزءاً أساسياً من معاملتها للفلسطينيين، من دون الالتزام بالمبادئ والإجراءات القضائية، ولا بالضمانات الإجرائية التي حددها القانون الدولي. كما لم تلتزم بروح قانون "الاعتقال الإداري" الموروث عن الانتداب البريطاني، حين لجأت، بعد احتلالها بقية الأراضي الفلسطينية سنة 1967، إلى إصدار عدة أوامر وقرارات عسكرية، لشرعنة "الاعتقال الإداري" وتكريسه وتوسيع تطبيقه، بما يخدم سياستها، وأصبح الاعتقال الإداري على يديها عقاباً جماعياً ضد الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967. وهذا السلوك الإسرائيلي يشكل جريمة، وفقاً لقواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.

 

عدد قرارات الاعتقال الإداري الصادرة بحق الفلسطينيين

لقد أصدرت سلطات الاحتلال منذ سنة 1967، أكثر من 55 ألف قرار بالاعتقال الإداري، سواء كان قراراً جديداً، أو ما تم تمديده، منها أكثر من 30 ألف قرار منذ اندلاع "انتفاضة الأقصى" في 28 أيلول/ سبتمبر 2000[1]، ولا سيما في الأعوام الأخيرة التي شهدت تصاعداً لافتاً في حجم وأعداد القرارات الصادرة، فعلى سبيل المثال: سنة 2019، أصدرت سلطات الاحتلال نحو 1035 قرار اعتقال إداري، أما في سنة 2020 فأصدرت 1114 قراراً، بينما ارتفعت الأعداد أكثر خلال سنة 2021، إذ صدر 1595 قراراً.[2] واستمرت في ارتفاعها خلال العام الجاري، وأصدرت سلطات الاحتلال منذ مطلع سنة 2022، وحتى الأول من تشرين الأول/أكتوبر الجاري 1610 قرارات اعتقال إداري، أي ما يفوق ما صدر طوال العام الماضي بأكمله.[3] هذا بالإضافة إلى ارتفاع عدد المعتقلين الإداريين اليوم، ليصل إلى قرابة 800 معتقل إداري، بعد أن كان عددهم يتراوح ما بين 450-500 خلال الأربعة أعوام الماضية.

800 فلسطيني ما زالوا يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي رهن الاعتقال الإداري، إلى أمد غير معلوم، إذ من الممكن تجديد مدة الاعتقال مراراً وتكراراً، حتى أصبح التجديد سيفاً مسلطاً على رقاب المعتقلين الإداريين، وهناك من الفلسطينيين مَن مُدّدت فترة اعتقالهم الإداري عدة مرات متتالية وأمضوا في السجون أعواماً طويلة، من دون تهمة أو محاكمة، وقد أمضى بعض المعتقلين الإداريين أعواماً طويلة في سجون الاحتلال تصل إلى خمسة أعوام وأكثر، بصورة متتالية، أو على فترات، استناداً إلى ما يُسمى بـ "الملف السري" الذي يشكل أساس الاعتقال، حيث السرية المفروضة على الأدلة والمواد، والتي لا تسمح للمعتقل بمعرفة أسباب اعتقاله، وكذلك لا يُسمح لمحاميه بالاطلاع على محتوى التهم المنسوبة إلى موكله، وهو ما يجعل من المستحيل ردّ التهم المنسوبة إليه، أو حتى مجرد مناقشتها.

 

الفئات المستهدَفة

"الاعتقال الإداري" طال كل الفئات العمرية والاجتماعية: ذكوراً وإناثاً، رجالاً وشيوخاً وأطفالاً، مرضى وأصحّاء. وشمل نواباً ووزراء وأكاديميين وكُتّاباً وإعلاميين ومحامين ومثقفين وقيادات سياسية ومجتمعية... إلخ، بسبب آرائهم وكتاباتهم ومواقفهم ومنشوراتهم عبر السوشيال ميديا، أو عقاباً لحضورهم ومشاركتهم في فعاليات سياسية ووطنية، أو لتحجيم دورهم وتفاعلاتهم الاجتماعية وقوة تأثيرهم. كما لم يقتصر استخدامه بحق المعتقلين الجدد، إنما لجأت سلطات الاحتلال إلى استخدامه ضد كل مَن لم تُثبت إدانته في غرف التحقيق، وأحياناً بعد أن يُمضي المعتقل فترة محكوميته، أو بعد خروجه من السجن بوقت قصير. وعلى عكس الإجراء الجنائي، فإن الاعتقال الإداري يُستخدم أحياناً لمعاقبة شخص، ليس بسبب ارتكابه مخالفة، بل باعتباره يشكل تهديداً للأمن، ومن الممكن أن يقترف المخالفة مستقبلاً، وفقاً لتقديرات الأجهزة الأمنية.

 

تجربة شخصية:

كنت واحداً من هؤلاء المعتقلين إدارياً، ومررت شخصياً بالتجربة، واعتُقلت مرتين إدارياً، وأمضيت عاماً كاملاً في السجن، بلا تهمة أو محاكمة، بواقع ستة أشهر في كل مرة، ومررت على ما يُسمى محاكم الاستئناف الصورية، من دون معرفة أسباب الاعتقال التي ما زلت أجهلها، وعايشت المعتقلين الإداريين بفئاتهم العمرية المختلفة، وكنت شاهداً على أساليب الاعتقال وظروف الاحتجاز وقسوة الظروف المناخية، صيفاً وشتاءً، وسوء المعاملة والأوضاع الصحية وتدني الخدمات المقدمة وتردّي الطعام، كماً ونوعاً، وانعدام الزيارات العائلية، أو الاتصالات الهاتفية، بينما كان يُسمح لنا في حينه بالمراسلة عبر الصليب الأحمر أحياناً، في ظل غياب القانون الدولي.

 

امتداد لمسيرة من الإضرابات

يشكل إضراب المعتقلين الإداريين امتداداً طبيعياً لمسيرة طويلة من الإضرابات عن الطعام التي خاضتها الحركة الوطنية الأسيرة، وقدمت خلالها العديد من الشهداء والكثير من التضحيات تحت عنوان كان الأبرز دائماً: نعم لآلام الجوع، ولا لآلام الركوع، حتى أصبح الإضراب عن الطعام جزءاً أساسياً من ثقافة الحركة الوطنية الأسيرة، ووسيلة نضالية ثابتة لدى الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سياق نضالهم المشروع ضد السجّان الإسرائيلي وإجراءاته التعسفية والقمعية المختلفة. وقد استطاعوا بفعل "الإضراب" انتزاع الكثير من حقوقهم المسلوبة وإحداث التغيير الإيجابي في واقعهم وظروف حياتهم داخل السجون، على قاعدة أن الحق يُنتزَع ولا يُوهَب.

ولم يكن "الإضراب عن الطعام" يوماً هو الخيار الأول أمام الأسرى، كما لم يكن هو الخيار المفضل لديهم، وليس هو الأسهل والأقل ألماً ووجعاً، إنما هو الخيار الأخير وغير المفضّل، وهو الوسيلة النضالية الأشد إيلاماً والأكثر وجعاً، لذا، هم لا يهوون تجويع أنفسهم ولا يرغبون في إيذاء أجسادهم، ولا يتمنون أن يسقط بينهم شهداء ليلتحقوا بالشهيد عبد القادر أبو الفحم الذي استشهد في أثناء إضراب عسقلان في تموز/يوليو 1970، والذي يُعتبر أول شهداء الحركة الوطنية الأسيرة في مسيرة الإضرابات عن الطعام.

لجأ الأسرى الإداريون إلى هذا الخيار، مضطرين ورغماً عنهم، وذلك بعد استنفاد جميع الخيارات الأُخرى، واستخدام كافة الوسائل النضالية الأقل ألماً ووجعاً، وبعد أن توصلوا إلى قناعة بفشل تلك الخيارات، وأن المعركة بحاجة إلى تضحيات، على اعتبار أن السجن ساحة أُخرى من ساحات النضال والاشتباك والمواجهة، وأن الإضراب عن الطعام شكل من أشكال المقاومة السلمية داخل السجون، وامتداد طبيعي لحالة الاشتباك اليومي والمواجهة المباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي.

ويأتي هذا الإضراب مع استمرار التصعيد الإسرائيلي اللافت وازدياد أعداد المعتقلين الإداريين، في ظل صمت المؤسسات الدولية، الحقوقية والإنسانية، وعجز المؤسسات واللجان المختلفة، المحلية والعربية، المختصة بقضايا الأسرى والمعتقلين وحقوق الإنسان، لوضع حدٍّ لجريمة الاعتقال الإداري.

يراهن الأسرى على نصرة شعبهم وقواه الحية، ووقوف أخوانهم ورفاقهم الأسرى إلى جانبهم، ودعم المجتمع المدني ومؤسساته المختلفة، ومساندة أحرار العالم لقضيتهم، والحشد الإعلامي في تسليط الضوء على معاناتهم ودوافع إضرابهم وطبيعة مطالبهم.

لقد أدرك الثلاثون معتقلاً هؤلاء أهمية الإضراب وخطورته في الوقت ذاته، ويعلمون كذلك بأنه من الممكن أن يطول ويمتد إلى أيام وأسابيع، أو حتى إلى بضعة أشهر، وقد يؤدي إلى تدهور صحتهم ويؤذي أجسادهم، إلا إن كل واحد منهم يشعر بأنه قوي بذاته، وأن قوته تزداد وتكبر برفدها بقوة كل معتقل آخر، يشاركه الهدف نفسه والوسيلة نفسها، فقوة الفرد تُستمد من الجماعة، وجميعهم أقوياء بقوة الجماعة، ومصممون على مواصلة إضرابهم، رفضاً للاعتقال الإداري، وماضون، بثبات وإصرار، في معركتهم ضد السجّان، نحو انتزاع انتصار يعود بالفائدة على الجميع، وإحداث اختراق نوعي في هذا الملف المؤلم، على الرغم من قيدهم وتقدُّم بعضهم في السنّ، وما يُمارَس بحقهم من ضغط وقمع وإجراءات تعسفية.

وفي الختام، لا بد من التأكيد أن:

-إضراب المعتقلين الإداريين يُحدث حراكاً تفاعلياً وضجيجاً بات مسموعاً، ويشكّل بداية نضالية مهمة في مواجهة الاعتقال الإداري، واختباراً جدياً لكل مَن رفع شعار لا للاعتقال الإداري.

-من المهم استثمار الإضراب وتفاعلاته والبناء عليه، وتوسيع مشاركة المعتقلين الإداريين، فصائلياً وعددياً، بشكل متدحرج، وصولاً إلى إضراب جماعي يشمل كافة المعتقلين الإداريين. هذا بالإضافة إلى ضرورة أن يخطو الأسرى الآخرون خطوات داعمة ومساندة، على غرار ما حدث مؤخراً في سجن "عوفر" , وسجن "نفحة" والتحاق 20 معتقلاً آخر من رفاقهم، وهذا سيشكل ضغطاً إضافياً على إدارة السجون.

-لعل من أهم عوامل إنجاح الإضراب وتقصير مدته، هو تفعيل كافة أشكال الدعم والإسناد خارج السجون، الرسمية والفصائلية والحقوقية والقانونية والشعبية والإعلامية، إلى جانب الضغط بكل الوسائل المشروعة على المؤسسات الدولية كي تتحمل مسؤولياتها وتتحرك للانتصار لمطالب المضربين.

وأخيراً، لا بد من اعتماد خطة وطنية شاملة طويلة الأمد، غير مرتبطة بالسقف الزمني لهذا الإضراب، تعتمد على العمل التكاملي والفعل التراكمي، بعيداً عن الموسمية، وتهدف إلى حشد الرأي العام المحلي والعربي والدولي في إطار تدويل هذا الملف ومواجهة سياسة الاعتقال الإداري. 

 

[1] الوطنية للإعلام، انظر الرابط.

[2] تقرير مؤسسات الأسرى- حصاد عامي 2020 و2021.

[3] قناة الغد، انظر الرابط.

 

عن المؤلف

عبد الناصر فروانة: أسير محرَّر، ومختص بشؤون الأسرى، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، ورئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، وعضو لجنة إدارة هيئة الأسرى في قطاع غزة، وله موقع شخصي اسمه: فلسطين خلف القضبان.

 

الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية

مؤسسة الدراسات الفلسطينية

https://www.palestine-studies.org/ar/node/1653304