من سيكتب عن الاعتقالات والإستدعاءات السياسية ؟

 

 

* بقلم / عبد الناصر فروانة

11 مارس 2011  

غزة- فلسطين

  

     في غضون الأيام القليلة الماضية وصلتني رسالة من صحفية وناشطة فلسطينية تقيم في النمسا وتتابع جيداً الشأن الفلسطيني وقضية الأسرى بشكل خاص ، وأكن لها ولجهودها كل الإحترام ، ومراراً اتصلت بي لتسألني عن أحوال غزة والأسرى ، وكثيراً ما ترجمت طواعية تقاريرنا ذات العلاقة بالأسرى للغة الإنجليزية ووزعتها ونشرتها على موقعها .

ولكن في رسالتها هذه لم تسألني عن أحوال غزة أو عن أوضاع الأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال الإسرائيلي كعادتها ، وإنما عبًّرت في رسالتها عن سخطها وألمها وحزنها لما جرى ويجري في الضفة الغربية وقطاع غزة من اعتقالات وتعذيب على أيدي أجهزة الأمن المختلفة، واستدعاءات مستمرة لنشطاء على خلفية الانتماء السياسي ، بغض النظر عن حجم هذا الفعل هنا أو هناك ، أو التفاوت فيما بينهما ، فهي كانت تتحدث عن المبدأ ورفضها له بأي شكل من الأشكال وتحت أي ظرف كان  .

وفي مقدمة رسالتها كتبت تقول ( بقدر ما افتخر بكتابتك ومتابعتك الحثيثة لقضايا وهموم الأسرى في السجون الإسرائيلية ، بقدر ما يعتصرني الألم لما يجري لمناضلينا الأبطال في سجون حماس والسلطة الفلسطينية .

وسؤالي من سَيكتب عن هؤلاء ؟ وهل سيظهر فروانة جديد ليكتب حول سجناء فلسطين في السجون الفلسطينية ؟ هذا هو السؤال الذي يدور في خلدي ) .

ولا شك بأنني وخلال تنقلي بين كلماتها تأثرت بما كتبت ، فلمست صدق مشاعرها ، وقدرت ألمها ووجعها من هذا الملف المؤلم ، واستيائها من هذا السلوك الشاذ .

هذه المشاعر لمستها لدى آخرين من قبل ، وكلمات مشابهة وصلتني من أناس بعضهم أعرفهم والبعض الآخر لم يسبق لي معرفتهم ، بل وأن بعض أصدقائي ورفاق القيد والسجن سابقاً طلبوا مني في وقت سابق أن أوثق هذه الأحداث ، وأمنحها قسطاً من وقتي واهتماماتي وأكتب حولها وأتحدث بشأنها ، أو على الأقل التجارب التي مروا بها وتعرضوا لها ...  

ولأن المشهد مرير ومكرر كتبت للزميلة الصحفية في ردي لها :

(( إذا كنت تكتبين وقلبك يعتصر ألماً ، فانا أقرأ كلماتك فاستحضر رغماً عني عشرات القصص والروايات والشهادات المؤلمة هنا وهناك ، فيعتصر قلبي ألماً أكثر من ألمك ، فالمشهد هذا لم نكن نتخيل رؤيته حتى في المنام .

والروايات التي تتردد لمسامعي تحمل في بعض مضامينها صور مرعبة ومؤلمة ، وفي بعضها الآخر فظيعة تفوق بفظاعتها عما يجري في سجون الاحتلال الإسرائيلي ، والخطوط التي كنا ولا زلنا كفلسطينيين نعتبرها " حمراء " نقف أمامها ولم نجرؤ على الاقتراب منها أو تجاوزها ، أصبحت بالنسبة للبعض بيضاء اللون ، يدوسون عليها وكأنها خطوط خصصت للمشاة  ( لا ) للوقوف أمامها وحمايتها .

ليس هناك اتفاق وطني حول مفهوم " الإعتقال السياسي "

والأمر الآخر أنه ليس هنالك من اتفاق وطني على مفهوم الاعتقال السياسي ، ولم أعد شخصياً أفهم من هو المعتقل السياسي ، وهل يوجد معتقلين سياسيين في سجون غزة ورام الله ؟ في ظل نفي الطرفين ؟ وهل الإستدعاءات المتكررة لنشطاء على خلفية انتماءاتهم الحزبية هي جزء من الاعتقال السياسي أم لا ؟  

  وفهمت أن هناك خلط في المفاهيم ، فبعض من نعتقد أنه معتقل سياسي ، تتفاجأ بأنه معتقل على خلفية تعاونه مع الاحتلال ، أو على خلفية ارتكابه تجاوزات ومخالفات أمنية يعاقب عليها القانون الفلسطيني ، ولكن ومع ذلك يجب التحقيق من قبل مؤسسات حقوقية مستقلة في كل هذه الحالات وظروف ودوافع الاعتقال وكيفية انتزاع الإعترافات وآليات التوقيف والمحاكمة .. الخ

فيما أن بعض الزملاء الحقوقيين يرون بأن الإستدعاءات المتكررة في قطاع غزة أو في الضفة على خلفية سياسية هي جزء من الاعتقال السياسي والتعدي الصارخ على الحريات  .

وصراحة هناك الكثير مما كُتب ويمكن ان يكتب في هذا الصدد ، وأنا لست خبيراً في هذا الشأن ، ولكن صدقيني لو كتبنا لن يسمعنا أحد وحتى ان وجدنا من يسمعنا ... فمن سيكتب عن آلاف الأسرى في سجون الاحتلال وأيهما أهم وأولى ؟

الأولوية يجب أن تُمنح دوماً لأسرانا في سجون الاحتلال

هذا سؤال راودني كثيراً ، ولكن حتى اللحظة أنا مقتنع تماماً بأن الأولوية يجب أن تُمنح لأسرانا في سجون الاحتلال ، هكذا أرى الاتجاه الصحيح للبوصلة ، فالوضع الداخلي استثنائي ، والاعتقالات السياسية مرتبطة بظرف استثنائي عنوانه " الانقسام " ، ويجب أن ( لا ) تستنزف هذه الإعتقالات جهودنا ، ويجب أن لا تحيدنا عن نهجنا وتُحرف بوصلتنا ، مع التأكيد على أن الاعتقال السياسي أو الإستدعاء المتواصل هو إجراء غير مبرر ، وأن تعذيب الفلسطيني جسدياً أو نفسياً على أيدي فلسطينيين يُعتبر جريمة .

وودعينا نفترض جدلاً بأننا شرعنا بالكتابة عن الشأن الداخلي والاعتقالات وتعذيب الفلسطيني على يد أخيه الفلسطيني تارة ، وتارة أخرى عن اعتقالات الاحتلال وتعذيبه ، فلربما تختلط الأمور و يضعف موقفنا في مواجهة انتهاكات الاحتلال وجرائمه بحق آلاف الأسرى والتي لا تُعد ولا تحصى ، ويضعف مطالبتنا له بتطبيق اتفاقيات جنيف ونحن لم نلتزم بالقانون الفلسطيني والدولي.

صدقيني لم أكن أتخيل يوما بأني سأرى هذا المشهد المؤلم من اعتقالات وتعذيب واهانة واستدعاءات بالجملة ، ولم أكن أظن لبرهة بأنني سأقرأ في ذات صباح خبراً عن سجناء فلسطينيين في سجون فلسطينية على خلفية سياسية أو حزبية ، ولم أكن أتوقع اطلاقاً بأن يقود بنا الوضع الى ممارسة ما كنا نصفه محرماً بحق أبنائنا .

ولهذا فضلت الصمت ... ليس خوفاً من استحقاقات قول ما أعرفه وما أنا مطلع عليه وما أسمعه وأقرأه على صفحات الرسائل الآتية الىّ عبر الإيميل ، وإنما لأنني لا أملك الحقيقة الكاملة عما يجري على الساحة ، ولم أقم بزيارة السجون الفلسطينية في قطاع غزة ، أو في الضفة التي يصعب علىّ الوصول إليها .

 والأهم من كل ذلك أنني فضلت أن أبقى مختصاً ومخلصا لقضية الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي كي أمنحها جل اهتمامي ووقتي ولست نادماً ولن أندم على ذلك حتى لو استنزفت جل وقتي واهتمامي وهي كذلك بالمناسبة .

فيما سأشعر بالندم عشرات المرات إذا استنفذ الوضع الداخلي جهدي ووقتي على حساب إخواني الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي .

 لهذا قررت السير باتجاه دعم ومساندة من هم بحاجة لي ولجهودي .. وسأترك الاعتقالات الداخلية لغيري ، وبكل صراحة لا أفكر ولن أفكر بالكتابة حول هذا الموضوع ، فالانقسام يجب أن ينتهي ، وأن تزول تبعاته ونمحو انعكاساته المؤلمة ونجتث آثاره المدمرة.

فالوضع يا عزيزتي قاسي والكتابة حوله أقسى ، ومع ذلك لن أكتب حوله ، ولن يصلك مني سوى أخبار الأسرى والأسيرات في نفحة وعسقلان والدامون وهشارون ، في النقب وعوفر وجلبوع وهداريم ، في بئر السبع وشطة ومجدو وريمون  ، وستظلين تقرأين مني فقط كل ما يتعلق بالأسرى في سجون الاحتلال وذويهم ، لعلني أوفق في التأثير على اهتمامك واهتمام غيرك ، ونستطيع سوياً أن نؤثر على الرأي العام المحلي والخارجي بما يخدم أسرانا ويلعن الظلام والاحتلال وممارساته ويدعم حق أسرانا بالحرية .

وقبل أن أختتم حديثي تذكري وليعلم كل القراء بأن ( 6000 ) أسير فلسطيني يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي يتعرضون بمنهجية لصنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي ، بهدف الإيذاء المعنوي والجسدي والقتل البطيء ، وتذكري أيضاً بأن من بين هؤلاء ( 136 ) أسيراً مضى على اعتقالهم عشرين عاماً وما يزيد ، منهم ( 32 ) أسيراً مضى على اعتقالهم أكثر من ربع قرن ، حتى تاريخ كتابة رسالتي هذه .

هذا بالإضافة لمئات الأطفال والنساء والمرضى ، وهؤلاء جميعاً هم بحاجة إلى فعلنا ومساندتنا ، لقلمنا وكلماتنا ، والى جهدنا وتحركنا ، فلنتوحد خلفهم ومن أجل نصرتهم ومساندتهم ودعم حقوقهم التي نصت عليها كافة المواثيق والأعراف والإتفاقيات الدولية ، على طريق ضمان حريتهم وعودتهم لذويهم وبيوتهم .

للشباب الكلمة الحاسمة في إنهاء الانقسام وإغلاق ملف الاعتقال السياسي

وعلى الرغم من ذلك سيبقى الأمل فينا منغرساً ، أمل إنهاء الانقسام واستعادة وحدة الشعب والوطن ، وهذا الأمل يكبر ويكبر وسط تنامي جهود حركة الشباب الفلسطيني في الآونة الأخيرة وتحركها وعلو صوتها واتساع نفوذها وتأثيرها ،  فللشباب كانت الكلمة الحاسمة ، والدور المتميز عبر مراحل الثورة وخلال الإنتفاضتين ، وبإذن الله سيكون دورهم كذلك في تحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية وإغلاق ملف الاعتقالات والإستدعاءات السياسية ، كخطوة أساسية وهامة على طريق إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف ،. ))

ويبقى السؤال : من سيكتب عن الإعتقالات السياسية والإستدعاءات المستمرة ، من وجهة نظر قانونية وحقوقية شاملة ومحايدة ؟

أما نحن فسنبقى نكتب وندافع أولاً وثانياً وثالثاً عن الأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال الإسرائيلي ، ( لا ) بل عن كل من تعرض للإعتقال والتعذيب في سجون الإحتلال .

 

عبد الناصر فروانة

أسير سابق ، وباحث مختص في شؤون الأسرى

مدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى والمحررين في السلطة الوطنية الفلسطينية

0599361110

Ferwana2@yahoo.com

الموقع الشخصي / فلسطين خلف القضبان

www.palestinebehindbars.org