في الذكرى الأربعين لرحيله
"أبو جلالة" عاش ضاحكاً ومات مبتسماً
بقلم/ عبد الناصر عوني فروانة
رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحررين
11-1-2018
سمعت جرس الهاتف يرن رنيناً عالياً متصلاً، وتلقفت السماعة فإذا به صوت صديق عزيز، يقول لي والدموع تكاد تخنقه: صاحبك أبو جلالة مات. فارتعشت خوفاً ومفاجأة ولم أصدق ما يقوله صديقي. لقد كان الهاتف مرعباً، والخبر كان مراً وأليماً، بل وأكثر من فجيعة. فبكيت متألماً وتساقطت الدموع حزناً، وانحبست الكلمات في الحلق، وبدأت التساؤلات تُرهقني.
"أبو جلالة" مات. لم أصدق ما سمعته أذناي، ولا أريد أن أصدق أن الموت خطفه بهذه السرعة وغيبه عن الحياة باكراً، فتمنيت أن يكون ذلك غير صحيح، وأن صديقي تسرّع في الاتصال والإبلاغ قبل أن يتأكد من صحة الخبر، فأجريت اتصالاً واثنين وثلاثة، فإذ بالإجابة تحمل في مضمونها تأكيداً لما سمعته أذناي. "أبو جلالة" قد مات ورحل إلى الأبد.
يا الله ما أقسى الموت وسطوته، حينما تفقد عزيزاً وحبيباً، صديقاً ورفيقاً، لكنه قضاء الله وقدره وسنة الله في خلقه، (كل نفس ذائقة الموت)، وكما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: الموت لا يوجع الموتى.. الموت يوجع الأحياء.
صدقاً لقد أوجعنا موتك يا صديقي، وأبكانا رحيلك يا عزيزي، وسيبقى فراقك يؤلمنا يا رفيقي. فلقد عرفنا فيك نقاء السيرة ووفاء الصداقة. وعرفناك ثائراً ضد الاحتلال ومتمرداً على السجان. عرفناك معطاءً تجود وترتقي. عرفناك طيباً ومخلصاً، وعرفنا فيك المثابرة والاخلاص يا من حفظنا صورته في القلوب، وحفرنا اسمه في العقول، وسنردد سيرته بين الجموع. ومما يزيد النفس اطمئنانا – إن شاء الله تعالى – هي تركك يا صديقي هذه السيرة الرائعة بين رفاقك والناس أجمعين التي تستجلب لك الرحمة والدعاء، فما من أحد عرفك إلا وأثني عليك وعلى حسن أخلاقك، وما من أحد عايشك في السجن إلا وأشاد بصمودك وثباتك. وما من أحد عرفك وتلقى خبر وفاتك إلا ذرف الدمع، وتوشح الحزن ألماً لفراقك، وحسرة على غيابك، واسترسل بذكر محاسنك، وانهال بالدعاء والرحمة لك. ولقد مرّرت على بيت العزاء في مخيم البريج فالتقيت بالكثير من رفاقك، فرأيت وجهك في عيونهم مبتسماً، كما اعتدنا أن نراك دوماً. ضاحكاً ومبتسماً رغم مصاعب الحياة ومتاعب الدنيا البائسة.
ولد فقيدنا "أبا محمد" عام 1965 في مخيم النصيرات للاجئين الفلسطينيين وسط قطاع غزة، لأسرة أصولها تعود إلى قرية "يبنا" جنوب فلسطين المحتلة، وتربى بين شوارع وأزقة المخيم ودرس المرحلة الابتدائية في مدارس وكالة الغوث للاجئين في مخيم النصيرات قبل أن ينتقل مع أسرته للعيش والاستقرار في مخيم البريج، وترعرع هناك بين أوساط اللاجئين، وأنهى دراسته الاعدادية في مدارس المخيم، ومن ثم انتقل الى طاحونة سوق العمل والكدح لينضم الى شريحة العمال والكادحين، ويكتسب صفاتهم وينسج علاقات واسعة مع جيرانه وأصدقائه، فأحبهم وأحبوه. وعاصر الاحتلال منذ ولادته، وانضم أواسط ثمانينات القرن الماضي الى العمل الجماهيري عبر لجان العمل التطوعي التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومع اندلاع انتفاضة الحجارة في التاسع من كانون أول/ديسمبر عام1987، واتساع رقعتها وارتفاع منسوبها وأعداد المشاركين فيها، قرر وبدون تردد الالتحاق بركب الثورة والعمل المقاوم والالتصاق بالمنتفضين من خلال الأذرع الكفاحية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ليشكّل مع مرور الوقت وتزايد الفعل وتأثيره أحد أهم عناصر مجموعاتها الكفاحية واذرعها الضاربة في مخيم البريج والتي عُرفت باسم "نسور الثورة".
وفي التاسع من يونيو/حزيران عام1991، وفي ليلة كاحلة الظلام، اقتحمت بيته أجهزة المخابرات الإسرائيلية مدعومة بقوات جيش الاحتلال المدججة بالسلاح، وقيدت يديه بقيود بلاستيكية وعصبت عينيه ونقلته عبر الآليات العسكرية الى معسكرات الجيش والتحقيق ليتعرض فيها إلى أشكال مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي، ومن ثم نُقل الى معتقل النقب الصحراوي ليقضي فيه أكثر من ثلاث سنوات قبل أن يتحرر منه أواسط عام 1994.
"سامي أبو جلالة" كان واحداً من أولئك الذين تعرفت عليهم داخل السجن أوائل تسعينيات القرن الماضي، واستمرت علاقتي به إلى ما بعد التحرر وحتى الأيام الأخيرة من حياته. انه انسان عادي، لكن العادية في الإنسان تنقلب الى شيء آخر في الظروف غير العادية. وفي ظروف الاحتلال وما يمثله من قهر وقمع وظلم، تنقلب العادية إلى تمرد وثورة، وجرأة وبطولة، من أجل المساهمة في تغيير الواقع وخلق ظروف عادية تليق بالإنسان وتحفظ له كرامته، فانتمى للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومارس نشاطه الوطني والكفاحي بفاعلية عالية خلال انتفاضة الحجارة.
كان في السجن مرحاً وظريفاً، ضاحكاً ومبتسماً. كان وفياً ومخلصاً، ملتزماً ومنضبطاً. كان يتمتع بعلاقات رفاقية واسعة، وتميز بعلاقاته مع باقي الفصائل الوطنية والاسلامية. وبعد تحرره حافظ على علاقاته مع الكل الوطني، وصان انتمائه وخصائصه النبيلة، واستمر في نشاطه بما يخدم شعبه وقضيته، وكان حريصاً على التواصل مع أصدقائه ومحبيه، بل كان هو المبادر دوماً وابداً في الاتصال والتواصل. فأحبه الجميع وحرص الكل على مجالسته.
عمل بعد تحرره من السجن في مجالات مختلفة، وخلال السنوات الأولى من الألفية الثالثة التحق بالعمل في القطاع العام وعمل سائق اسعاف في وزارة الصحة الفلسطينية، فكان سائقاً وضابطاً ومسعفاً، جريئاً ووفياً، وشكّل سنداً للجرحى وعوناً للمصابين ومنقذاً لهم، وخاطر بحياته مراراً من أجل انقاذ الأحياء وانتشال جثامين الشهداء قبل أن تحتجزهم قوات الاحتلال التي استهدفت الأحياء والأموات. فاعتقلت الأحياء في السجون واحتجزت الأموات في "مقابر الأرقام". هي وحدها ووحدها فقط من يفعل ذلك مع الشهداء، سراً وعلانيةً، في واحدة من أبشع وأكبر الجرائم الأخلاقية والإنسانية والقانونية التي تقترفها دولة الاحتلال الإسرائيلي.
"سامي أبو جلالة".. عرفناك فأحببناك، رحلت وقلوبنا تعتصر بالحزن والألم، وبرحيلك في الثالث من كانون أول/ديسمبر عام 2017 غيبتَ الابتسامة وأظلمتَ مخيم البريج في وجهنا، لكن بقيّ وجهك المبتسم يشع نوراً في عيون اصدقائك ورفاقك وأبناء المخيم. فبأي دمع أبكيك، وبأي الحروف أرثيك وبأي الكلمات أوفيك حقك يا من كنت لشعبك ورفاقك وفيا ومخلصاً. وكما قال الشاعر نزار قباني: "يا وطني الحزين. حوّلتَني بلحظةٍ، من شاعرٍ يكتبُ الحبَّ والحنين، لشاعرٍ يكتبُ بالسكين".
نسأل الله العلي القدير أن يتغمد فقيدنا الغالي "سامي أبو جلالة" بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن يلهم أهله واصدقائه ورفاقه الصبر والسلوان. اللهم آمين يارب العالمين.