انتفاضة الحجارة و"بني عامر" وذكريات الزمن الجميل
بقلم/عبد الناصر عوني فروانة
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
11 كانون أول:ديسمبر2019
لست وحدي من عاصر انتفاضة الحجارة عام١٩٨٧. ولم أكن في ساحة المواجهة بمفردي أقاوم المحتل. كما ولم يُسجل بأني كنت المعتقل الأول في تلك الانتفاضة الكبرى. فلقد اعتقلت بعد اندلاعها بثلاثة شهور. وحينما اقتحموا بيتي في حي "بني عامر" وقيدوا يداي بالسلاسل، ووضعوا العصبة على عيناي واقتادوني إلى المعتقل، استطعت أن أرى هناك آلاف المنتفضين الفلسطينيين وقد سبقوني رغماً عنهم، وبعدما زجوا بي في زنازين التحقيق وساحات التعذيب، تمكنت من سماع صرخات وآهات مُعذبين آخرين كُثر. لقد كانت انتفاضة شعب كامل، قاوم ومازال يُمارس حقه في المقاومة سعياً لطرد المحتل وانتزاع الحرية والسلام.
وحين اندلعت الانتفاضة في التاسع من كانون أول/ديسمبر عام 1987، كنت حينها أسكن في بيتنا العتيق، الذي عشت فيه أيام طفولتي وشبابي، ذاك البيت القديم الواقع في حي بني عامر بمحلة الدرج، شرق مدينة غزة هاشم، خلف مدرسة الزهراء الثانوية للبنات، حيث تربيت وترعرعت فيه حتى أواسط تسعينيات القرن الماضي. وهو بالمناسبة ذات الحي الذي كان يقطنه الشهيد القائد، مهندس الانتفاضة/خليل الوزير (أبو جهاد). وعشت بين أزقة "بني عامر" التي تفوح بعبق التاريخ، أجمل سنوات عمري وأروعها مع أصدقاء أعتز بهم وأفتخر بعلاقاتي معهم، وجيران طيبون كانوا هم الأقرب إلى قلبي من كثير من الأقارب. هذا الحي الذي لنا في كل زاوية فيه حكاية، وفي كل مكان ذكرى. ومع كل جار قصة. لقد كنا عائلة واحدة. فحافظنا سويا على العلاقة الاجتماعية، وسعينا معا الى حمايتها واستمرارها. ولعل أجمل لحظات الحاضر وأكثرها سعادة، هي تلك التي ألتقي فيها بأصدقاء الطفولة ورفاق الأمس، وجيران أحببتهم كثيرا وعشت معهم طويلا في حي "بني عامر".
واليوم مع حلول الذكرى الثانية والثلاثين لاندلاع "انتفاضة الحجارة" نشعر بالفخر والاعتزاز، بالشموخ والعزة، ليس لأننا وعاصرنا مراحلها المختلفة، وانخرطنا في فعالياتها وأنشطتها المتعددة فقط، أو لما سجلناه من تجربة شخصية في ساحة المواجهة وبين جدران السجون خلال اعتقالنا لأربع مرات فحسب، وإنما لأن "الانتفاضة الكبرى" تميزت بكثير من السمات والخصائص التي جعلها مختلفة عن غيرها، وقدمت شكلاً رائعاً من النضال الشعبي واستخدم فيها السلاح البسيط المتمثل بالحجارة والمقلاع، وفي بعض الأحيان البلطة والسكين والمولوتوف، وجسدت نمطية جديدة ومتطورة من الوحدة الوطنية والقيادة الموحدة، واتسمت بالتكافل الأسري والتعاضد الاجتماعي، وشمولية المشاركة وديمومة المواجهة، وسطّر خلالها شعبنا الفلسطيني تجربة كفاحية جماعية تُحتذى في سياق مسيرته النضالية الطويلة ضد الاحتلال وأعوانه.
وكلما حلت الذكرى، ازددنا شموخاً بشعب الانتفاضة بجميع فئاته وقطاعاته، بالشهداء والجرحى والأسرى، وبأبطال الانتفاضة ووقودها وعظمائها وما تركوه جميعاً وتركته الانتفاضة من أثر كبير وارث عريق. الأمر الذي يدعونا لمطالبة كافة الفصائل الفلسطينية، الى توثيق مراحلها المختلفة بكل صورها وأشكالها، والاستفادة من دروسها وعبرها، بالرغم من أنها لم تكن الانتفاضة الأولى في مسيرة الشعب الفلسطيني، ونخطئ القول، تاريخيًا وسياسيًا، إن وصفنا "انتفاضة 1987" بالانتفاضة الأولى، فلقد سبقها الكثير من الانتفاضات، لكنها تميزت عن غيرها واتسمت بكثير من الصفات مما يجعلها محطة مختلفة عن غيرها في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي. لذا ستبقى محفورة في سجل التاريخ الفلسطيني المقاوم، وراسخة في ذاكرة كل فلسطيني عايشها وشهد مراحل مسيرتها وتطورها، أو تابعها وسمع وقرأ عنها.
واليوم ونحن في حضرة انتفاضة الحجارة نستحضر كثير من حكايات النضال وفصول الكفاح، وطبيعة العلاقات الوطنية والاجتماعية، ونعيد شريط الاعتقالات وذكريات السجون والمعتقلات وحياة الاخوة والرفاق خلف القضبان. فنسترجع الماضي بكل تفاصيله، ونَحِنُ لذاك الزمن الجميل. فعلا كان زمناً جميلا وكانت انتفاضة عظيمة.