أولت دائرة البحث العلمي ببرنامج غزة للصحة النفسية أهمية كبرى لدراسة الظواهر الأكثر إلحاحاً في المجتمع الفلسطيني ولما كانت ظاهرة التعذيب هي من بين تلك الظواهر لذلك حاول فريق البحث سبر أغوار تلك الظاهرة من عدة زوايا .

ففي الدراسة الأولى والتي أجريت عام 1993 حاول الباحثون استكشاف تأثير الخبرات الصادمة على الأسرى ومدى تعرض هؤلاء لأساليب التعذيب الجسدي والنفسي وقد تكونت عينة الدراسة من 477 شخصاً ممن تتراوح أعمارهم ما بين ( 14-45 عاماً ) وممن قضوا فترة السجن تتراوح ما بين 6 شهور إلى 10 سنوات ، وتشير النتائج إلى أن هؤلاء الأسرى تعرضوا إلى كماً هائلاً من التعذيب الجسدي والنفسي وإذا ما نظرنا إلى الشكل رقم (1) يمكن لنا أن نجد أن 95.8% قد تعرضوا للضرب ، وأن 92.9% قد تعرضوا للتبريد في الثلاجة وأن 76.7% قد تعرضوا للتسخين الشديد ، 91.6% تعرضوا للوقوف فترة طويلة ، 68.1% تعرضوا للضغط على الرقبة وأن 79.9% قد تعرضوا للشبح ، وأن 77.4% قد حرموا من الطعام ، وأن 86.6% قد تعرضوا للعزل الانفرادي ، وأن 71.5% قد تعرضوا للحرمان من النوم ، سوأن 81.6% قد تعرضوا للضوضاء الشديدة ، وأن 94.8% قد تعرضوا للإهانة الشديدة وأن 90.6% قد تعرضوا للتهديد ، وأن 70.2% قد شاهدوا تعذيب الآخرين ، وأن 66% قد تعرضوا للضرب في الخصيتين .

 

 

 

جدول رقم (1) يوضح النسبة المئوية لأنماط التعذيب الجسدية والذي تعرض له الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية .

 

وكذلك لم تسلم عائلة الأسير من التعذيب مما يوحي بأن التعذيب لم يكن يهدف الحصول على الاعتراف بل كان موجه إلى المجتمع الفلسطيني بهدف تدميره فقد ذكر 28.21% أن أفراد عائلاتهم قد تعرضوا للتعذيب أمامهم ، 27.9% ذكروا بأنهم تعرضوا للتهديد باغتصاب زوجاتهم أو أمهاتهم . 31% ذكروا بأنه قد تم تدمير أثاث المنزل أثناء الاعتقال .

ومن الجدير بالذكر أن فترة الألم لم تكن فقط داخل السجن بل امتد تأثير تلك التجربة خارج السجن فقد ذكر 41.9% بأنهم وجدوا صعوبة في التكيف ، 44.7% ذكروا بأنهم وجدوا الكثير من الصعوبات في العودة إلى الحياة الطبيعية ، 20.1% تعرضوا لمشاكل جنسية ، في حين 76.5 تعرضوا لمشاكل اقتصادية بل والأكثر من ذلك لم يقتصر تأثير التجربة على المجال العائلي والمجتمعي بل أنها أثرت كذلك على الصحة النفسية للأسير فقد أشارت الدراسة إلى أن حوالي 29.1% من أفراد العينة بدأوا يطوروا أعراض ما بعد الخبرة الصادمة والجدول رقم (3) يوضح مدى انتشار الخبرة الصادمة بين أفراد العينة .

 

 

 

جدول رقم (2) يوضح الأنماط المختلفة للتعذيب النفسي الذي تعرض له الأسرى في السجون الإسرائيلية .

 

 

 

جدول رقم (3) يوضح نسبة أعراض ما بعد الخبرة الصادمة لدى الأسرى والمحررين

 

 

 

وفي دراسة أخرى أجرتها دائرة البحث العلمي بهدف استكشاف أساليب التحمل التي ساعدت الأسرى على التوافق مع تلك التجربة الصعبة وتحليل علاقة هذه الأنماط مع المتغيرات النفسية والبيانات الشخصية الخاصة بكل سجين .

تم إجراء مقابلات من 79 أسير فلسطيني محرر حول خبرات السجن وطرق التغلب على هذه الخبرات وشخصية كل سجين وكيفية الوضع النفسي لكل منهم .

أبرزت نتيجة التحليل الكيفي عدة أنماط مختلفة من خبرات مختلفة من خبرات السجن . كانت واحدة من هذه الأنماط على وجه الحصر تعكس مشاعر سلبية تتميز بالمعانة والمرارة وعدم السعادة . واشتملت باقي هذه الأنماط على انطباعات مجزية نسبياً تميزت كالتالي:

الاعتقاد بإنجاز بطولي:

فعلى سبيل المثال يقول أحد الأسرى:

" إصراري القوي وإيماني العظيم بعدالة قضيتنا ساعدني كثيراً ، كنت أشعر دائماً بأنهم يختبرون قوتي ويجب أن أتحمل ذلك ، كنت متأكد من النصر ، كنت فخوراً بما فعلت وذلك كان كافياً لي . كنت أذهب للنوم عندما تشتد المعاناة أو أمارس التمارين الرياضية وقراءة آيات من القرآن ، لقد غيرني الاعتقال بشكل جوهري ولم تعد لدي الرغبة في بناء علاقات اجتماعية إضافية ، لقد أصبحت مغرماً بالقراءة والدراسة وخصوصاً عن أدب الثورة ، كان أسوء أنواع العذاب هو الحبس الانفرادي لمدة 15 يوم متتالية والضرب على الوجه والفم وإرغامي على البقاء مستيقظاً لمدة خمسة أيام وليالي طوال فترة التحقيق غير المتوقفة كان ذلك سيئاً جداً وكان السبب الوحيد لتحملي هو حبي الشديد لوطني " .

الاعتقاد بالمهارات التطويرية:

يقول أحد الأسرى:

" لقد كانت خبراتي السابقة من طرق التحقيق والتعذيب التي استخدمها العدو مهمة في مساعدتي على تحملها ، عرفت أنه يجب على ألا أعطي أية أسرار للإسرائيليين ، أيضاً لم أندم لأنني قد سجنت وذلك لأنني لم أفعل أشياء خاطئة كنت أذهب إلى السجناء الأكبر سناً وأناقش معهم المشكلة وذلك عندما كانت الأمور تزداد سوءاً ، تعلمت أنه من المهم أن أعلم أولادي .

كان أسوء شيء بالنسبة لي العذاب الجسدي والضغط على الخصية خلال التحقيق , كان ذلك وحشياً لأن العدو أراد أن ينتزع اعترافاً من مقاتل ، كان هدفهم إحباط نشاطاتنا وأعمالنا الثورية " .

الاعتقاد بالمرحلة المعيارية في حياة الرجل :

يقول أحد الأسرى:

" لقد أخبرنا السجناء الأكبر في السن أن نعد أنفسنا إلى صعوبة الاعتقال والتعذيب , لقد غيرنا السجن بشكل كبير ، حيث تعلمنا الأخلاق الحسنة وآداب السلوك والمعرفة بالأمور الأمنية , كان الأمر الأكثر سوءاً أن كسرت يدي خلال التحقيق وأودعت في الحبس الانفرادي لمدة طويلة . مع ذلك كان التعذيب الأمر الطبيعي لأنني رفض الاعتراف للبوليس السري .

نمو المدارك الشخصية:

يقول أحد الأسرى:

" خبرات السجن علمتني الأمانة وزادت من ثقتي بنفسي وإحساسي بالمسئولية تمنيت لو أن أستطيع هدم حدود السجن والخروج حراً , كنت أتحمل بسبب قوتي الحتمية على القتال , في الواقع السجن غير كثيراً من شخصيتي وأصبحت عزيمتي أقوى من الصخر ، أنا أشعر بأنني أعد نفسي لمستقبلنا وخلق حياة أسعد لكل من أحب .

ولكن تلك البطولة لم تكن لتخلو من المعاناة والألم فبعض الخبرات شملت صراع بين القوة والضعف ، وتذبذبت مشاعرهم بين الأمل والرغبة أو الانهيار والضعف وبين اهتمامهم برفاقهم والخوف من الإجبار على الاعتراف يقول أحد الأسرى " الذي ساعدني على إدراك الحقيقة هو أنني إذا اعترفت سوف أعاقب . كنت أفكر دائماً بالا أخدع أو أخون أصدقائي خارج السجن . والحمد لله أنني لم أعترف وقاومت ذلك وعند وجود أشياء لا يمكن تحملها كنت أقرأ كتباً أو ألعب تمارين رياضية أو أشغل نفسي بأشياء مختلفة "

" خلال التحقيق اعترفت على نشاطاتي السياسية ولكنني لم أدل بأي معلومات عما فعله الآخرين وهذا ما ساعدني على الاستمرار ، لقد علمني الاعتقال كيف أصبر وكيف أحترم الآخرين . كان معظم عذابي نفسياً بطبيعته وكان يهدف إلى سحب اعتراف مني ، أسوأ ما كان هو مدة الحبس الانفرادي " الثلاجة " والبقاء في نفس الغرفة كالعميل ، وبعد كل ذلك أيضاً تحدينا اليهود وأظهرنا لهم أننا لم نستسلم على الرغم من التعذيب " .

" لقد ثبتت وتحملت بسبب إيماني القاطع بعدالة قضيتي وكرهي للاحتلال العسكري وحبي للثورة وعندما كانت الأمور تزداد سوءاً كنت أفكر في الهرب حتى ولو كلفني حياتي ، أعتقد أن التجربة قد علمتني أن أفكر أكثر بعقلانية . كنت في السابق وعند اتخاذ القرارات أفكر بعاطفية أكثر ، لقد عذبت لأن المحتلين فكروا مثل النازيين وكرهونا "

ملخص عن بعض منشورات دائرة البحث لعلمي

ببرنامج غزة للصحة النفسية