الأسـرى ... ومعـارك البطولـة !!
* بقلم / عبد الناصر عوني فروانة
15 آب 2004 م
تمضي الأيام والشهور ، بل السنون والعقود ، والقضية تكبر وتكبر والجرح يتسع شرخاً وإلتهاباً أكثر فأكثر .. ولا دواء سوى دواء الحرية وإغلاق هذا الملف ..
وتتصاعد الأحداث وتمتزج الأخبار وتصلنا ساخنة ملتهبة كلهيب شمس يوليو في النقب ونفحة ، ومرة كمرارة زنازين عسقلان والمسكوبية ، وقاسية كـقساوة عزل السبع والرملة ، وحمراء كالدماء النازفة من الأسرى المصابين في عوفر ومجدو ... تصلنا وتخترق جدار صمتنا وتدق على ذاكرتنا بمطرقة من الحديد الصلب لتعيد بنا شريط الذكريات للوراء سنين طوال حيث كنا هناك خلف القضبان ، نشارك مع إخواننا ورفاقنا الإضرابات عن الطعام ، حينما كنا نَجوع ونَجوع ، ولا تَجوع المبادئ فينا ولو مرة واحدة ، ونَحِنُ للخبز والشاي ، ولا يَحِنُ التراجع و الركوع فينا ولو لبرهة واحدة ... كنا نتحدى الجلاد بجوعنا وعطشنا ويسقط الجسد منهكاً ولا تسقط المبادئ ، ويبقى الصمود والأمل عنوان المعركة ، هذا الإحساس يدفعنا لنلتحم بمشاعرنا وأحاسيسنا مع أسرانا ويتجذر إنتمائنا أكثر لقضية عادلة عمرها عقود من الزمن ، ويدفعنا هذا الإنتماء للتحرك وفق إمكانياتنا وبما يمكن أن يخدم قضاياهم ومطالبهم العادلة .
فنحن أسرى محررون نُدرك أكثر من غيرنا معنى السجن ، كما نُدرك جيداً قيمة الفعل الجماهيري التضامني ، ولهذا فمن المفترض أن نتقدم الصفوف دوماً ... فالسجون وإن تعددت فهي واحدة ، وأساليب التحقيق وإن اختلفت فهدفها واحد .. والمجرم في كل الأحوال هو واحد ... ونحن شعب واحد وسنبقى شعباً موحداً في كافة أماكن تواجدنا في السجون وخارجها وفي الوطن والشتات .
ولم تعد هناك بقعة في فلسطين إلاًّ وأن أقيم عليها سجنٌ أو معتقلٌ أو مركز توقيف ، كما لم تعد هناك عائلة إلاّ وأن ذاق أحد أبنائها أو جميعهم مرارة القيد ، ولم يعد هناك مواطنٌ في فلسطين إلاّ وأن عانى من حملات الإعتقالات والمداهمات والتفتيشات الليلية ...
وهذا ليس بجديد على إحتلال مجرد من كل القيم ويتفنن بجرائمه ، فمن يقتل البشر الأبرياء و يغتال أطفالاً نياما ، و نساء حوامل على الحواجز العسكرية ويمنعهن من الوصول الى المستشفى للولادة ، و يتسبب لهن بالإجهاض على المعابر ، ومن يقتل الشجر ويدمر الحجر ، تصبح قضية الاعتقال بالنسبة إليه قضية ثانوية ، ويتفنن المحتل في أشكال الإعتقال وأساليبه ، ويبتدع أساليب دموية لتعذيب المعتقلين وينتهج ممارسات يومية تهدف لإنتهاك حقوقهم الإنسانية الدنيا.
وخلال انتفاضة الأقصى صَعَّدت قوات الاحتلال الإسرائيلي من سياستها في الاعتقال بحق أبناء شعبنا الفلسطيني ، وقد رافق ذلك اندفاع سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتوسيع سجونها ومعتقلاتها، وكذلك أعادت افتتاح سجون ومعتقلات كانت قد أغلقتها قبل انتفاضة الأقصى، أو تشييد سجون جديدة وفق مواصفات شديدة القساوة والإجحاف كسجن جلبوع ، كما وصعدت من ممارساتها القمعية والإستفزازية ضد الأسرى في سجونها وشكَّلت وحدات خاصة لقمعهم علاوة على الإهمال الطبي للمئات من الأسرى المرضى والإكتظاظ و الإزدحام في السجون وفرض الغرامات المالية الباهظة وعزل بعض الأسرى لفترات طويلة ، وسياسة التفتيش العاري المذل للأسرى والحرمان من زيارة الأهل وحرمان بعض السجون من وسائل الإعلام المختلفة وحتى وسائل معرفة الوقت ، والتحرش الجنسي ومحاولات الإغتصاب وقلة مواد التنظيف وإنتشار الحشرات والأمراض الجلدية وسوء الطعام كماً ونوعاً وو....إلخ فالأخبار التي تصل لمسامعنا تقشعر لها الأبدان وتذرف لها الدموع ويجب أن تتحرك من أجلها الضمائر وتستنفر لها الهمم ... وإن الإنتهاكات الإسرائيلية بحقهم هي أبشع بكثير مما جرى بحق الأسرى العراقيين وشاهدها العالم ، وأن الفارق هو عدم وجود تصوير داخل السجون الإسرائيلية .
وليس هذا فحسب بل أقدمت سطات الإحتلال على سحب العديد العديد من الإنجازات التاريخية للحركة الأسيرة والتي تحققت بفعل نضالات ومعاناة مئات الآلاف ودماء العشرات ، وهي حملة شرسة مدروسة ممنهجة تهدف إلى تجريد الحركة الأسيرة من كل شئ وإعادتها إلى الحالة التي بدأت عليها قبل أكثر من ثلاثين عاماً ، وهذا يعني أن دماء الشهداء وتضحيات الأسرى عبر العقود الماضية ستذهب هدراً ، وهذا أمر مستحيل قبوله.
وأسرانا أدركوا خطورة المرحلة وحذَّروا مِراراً إدارة السجون من مغبة الإستمرار في ذلك من خلال خطوات إحتجاجية ونضالية متفرقة هنا وهناك ، ولكن لا حياة لمن تنادي ، وعليه فلقد قرر كافة الأسرى وعددهم يقارب 7500 أسير وفي كافة السجون والمعتقلات الحفاظ على إنجازات الحركة الأسيرة ووفاءاً لتضحيات الأسرى ودماء الشهداء وصوناً لكرامتهم ، خوض إضراب مفتوح عن الطعام في منتصف آب الحالي ويشارك أيضاً في الإضراب 100 أسيرة يقبعن في سجني نفي تريستا وهشارون ولديهن مطالب خاصة منها توفير شروط صحية لأطفالهن في السجن حيث أن هناك أسيرتين وضعتا مواليدهما في السجن هما ميرفت طه من القدس ومنال غانم من طولكرم .
وكما يقول النائب الأسير حسام خضر عضو المجلس التشريعي الفلسطيني من عزله ومن داخل زنزانته ( إن معسكرات الاعتقال الإسرائيلية في غاية السوء والقسوة والإمتهان لكرامة الإنسان وتشهد حالة من الغليان والتصعيد نتيجة الظروف القاسية والسياسة القمعية التي تنتهجها إدارة السجون الإسرائيلية بحق الأسرى وعدم تلبية مطالبهم ومصادرة حقوقهم وتضييق الخناق عليهم وعزل قادتهم، ويضيف بأن هذه الخطوة تهدف إلى استعادة حقوقنا وإنجازات أجيال سبقتنا وحفاظاً على كرامتنا وإنسانيتنا والتي تنتهك على مدار الساعة ).
وعبر مسيرتها العريقة خاضت الحركة الوطنية الأسيرة العديد من الإضرابات عن الطعام والتي كان لها الأثر الكبير في صقلها ونموها و تطورها ، وكان أولها في الخامس من تموز سنة سبعين وتسعمائة وألف في سجن عسقلان والذي استشهد خلاله المناضل عبد القادر ابو الفحم بالرغم من أنه خاض الإضراب وهو مريض ورفض أن يستثنى منه ، أما الإضراب التاريخى الثاني فكان أيضاً في عسقلان عام 1976م وامتد الإضراب مدة شهر تقريباً وبعد شهر واحد من انتهاءه ونظراً لمماطلة الإدارة في تحقيق مطالب الأسرى تبعه اضراب آخر ، أما الإضراب التاريخي الثالث والذي شكل معلماً بارزاً في تاريخ الحركة الأسيرة فكان في نفحة الشهداء عام 1980م واستشهد خلاله الشهيدان المفخرة علي الجعفري وراسم حلاوة ، أما الإضراب التاريخي الرابع والذي شمل كافة السجون والمعتقلات وشارك فيه اكثر من 12000 ألف معتقل فكان في الإنتفاضة الأولى بتاريخ 27/9/1992م واستشهد خلاله الشهيد حسين عبيدات .... وهذا لا يعني أنه لم يحصل اضرابات أخرى عن الطعام هنا وهناك ، بل وعلى مدار العام تشهد كافة السجون والمعتقلات إضرابات عن الطعام ولفترات متفاوتة ومحددة ، وهناك الإضرابات الجزئية الإحتجاجية والتي تتمثل في إرجاع وجبة أو وجبتين .. بمعنى سلاح الإضراب عن الطعام هو سلاح قديم جديد يستخدمه الأسرى في اللحظات الحاسمة وهوخيار صعب لا بد من إنتهاجه في وقت تغلق فيه كافة الخيارات الأخرى .
وهي معركة يخوضها الأسرى وليست ككل المعارك ، ليست كالمعارك التي خاضوها مسلحين وجهاً لوجه مع قوات الإحتلال قبل إعتقالهم ، إنها معركة من نوع خاص يخوضها طرفان أحدهما متسلح بإنحطاط القيم والأخلاق و بالعصى والغاز المسيل للدموع والبنادق وأدوات قمع كوحدات " نخشون " والتي شٌكلت خصيصاً لقمع الأسرى ، وطرف آخر يتسلح بقضية عادلة و بالصبر والإرادة والأمل ومن خلفهم ملايين الجماهير ...
فهي فعلاً معركة الصبر على آلام تلوي الأمعاء الخاوية ، الصبر على آلام الجسد المنهك والإرهاق الشديد ، الصبر والصمود في وجه الممارسات القمعية التي تنفذها وتصعد منها إدارة السجون بهدف قمع الإضراب وإفشاله ... إنها معركة صعبة ومصيرية خاصة وأن إدارة مصلحة السجون هدّدت الأسرى بتصعيد حملاتها الوحشية إذا ما أقدموا على الإضراب ولهذا فمن المتوقع أن يواجه الأسرى ممارسات أكثر وحشية ، ومن هنا تكمن أهمية المساندة الجماهيرية لهم .
الأمر يستدعي وضع برنامج وطني وإعلامي وحقوقي يشارك في صياغته وتنفيذه كافة القوى الوطنية والإسلامية ومؤسسات حكومية وغير حكومية ونقابة الصحفيين وشخصيات وطنية ، ليضمن اكبر حالة تضامن ومساندة للأسرى الفلسطينيين في معركتهم الحالية وفي تحقيق مطالبهم الإنسانية في المقام الأول والتي تتمثل بالعشرات من المطالب وفي مقدمتها :
- وقف سياسة التفتيش العاري والمذل .
- إنهاء سياسة العزل الانفرادي والتي تمتد لمدد طويلة جداً وفي ظروف قاسية جداً .
- إنهاء سياسة القمع والتنكيل والتفتيش الاستفزازي.
- توفير العلاج اللازم للمرضى وإجراء العمليات الجراحية لمن تستدعي حالتهم ذلك ، وتحسين شروط ما يسمى مستشفى الرملة وتوفير أطباء مختصين .
- السماح لذوي الأسرى بالزيارات و إزالة الألواح الزجاجية العازلة والتي وضعتها سلطات السجون في غرف الزيارة والتي تحرم الأسير من السلام على ذويه و ملامسة أصابع أطفاله ويجعل الحديث يتم عبر السماعة والتي غالباً ما تكون مشوشة .
- تحسين شروط الحياة من الأكل ، مواد التنظيف وإدخال الملابس والكتب والصحف .
- وقف سياسة فرض الغرامات المالية الباهظة جداً لأتفه الأسباب عن الأسرى.
- السماح بزيارة المحامين بحرية وبدون قيود والسماح للأشقاء الأسرى بالإلتقاء والتواجد في سجن واحد .
- والسماح بإدخال الكتب والمجلات والجرائد والقرطاسية والاشرطة والملابس و مواد غذائية اساسية مثل الزيت والزعتر... وغيرها ، عن طريق الزيارة.
وأمام هذه التحديات يجب علينا كأسرى محررين ونشطاء وحقوقين معنيين بقضايا الأسرى ، ومؤسسات حكومية وغير حكومية ، ومجلس الوزراء - وبالمناسبة أثمن عالياً قراره القاضي بإعتبار الثامن عشر من الشهر الجاري يوماً وطنياً وهو اليوم الذي ستنخرط فيه كافة السجون والمعتقلات بالإضراب - ، والمجلس التشريعي وجماهير شعبنا المخلصة الوفية في كل مكان .. يجب علينا جميعاً إستنهاض الهمم والإنتفاض من تحت ركام الكسل واللامبالاة للمشاركة الفاعلة في الفعايات التي ستنظم تضامناً ومساندة لأسرانا في السجون والمعتقلات الإسرائيلية ، وعلى كافة المؤسسات الحقوقية والإنسانية أن تثير هذه القضية وبقوة في كافل المحافل الدولية التي تدعي الإنسانية وحقوق الإنسان ، كما ومن واجب وسائل الإعلام المختلفة المحلية والعربية تسليط الضوء على قضايا الأسرى ومعاناتهم ، وللمرة الألف أقول أن قضية الأسرى هي قضية عربية وإسلامية والتضامن معهم ومساندتهم وتحريرهم هو واجب وطني وقومي وإسلامي ...وهذا يعزز لديهم الصمود ويعزز الأمل فيهم ، فلا تتركوا جيش الأسرى ، جيش فلسطين الصامد خلف الأسر ، وحدهم في الميدان ، لا تتركوهم وحدهم يواجهون الأعداء والسجان .
* أسير محرر ويعمل بوزارة الأسرى والمحررين بغزة .