الأسرى والموت ... !

                              بقلم / د. عدنان جابر

دمشق 6/1/2007

 

1- مسابقة!

نحن الأسرى السابقين، لم نتهيأ لمسابقة الموت..

ها نحن ننقص واحدا..ً واحداً. نعرف من رحل، من بقي، ولا نعرف من سيأتي عليه الدور غداً.

 لم نفرغ بعد من إطعام أولادنا، لم نعطِ زوجاتنا كلَّ الحب.. لم نفرغْ من قراءاتنا.. لم ننته من كتابة ما عكفنا على كتابته.. قاتلنا وصارعنا وركضنا ولم نلتقط أنفاسنا،  لم نرتو بعد من شراب الحياة..

نحن الأسرى السابقين، لم نتهيأ لمسابقة الموت..

في السجن الصغير، انشغلنا بمقارعة الجلاد، وغزلنا خلال نهاراتنا وليالينا الطويلة  أحلاماً دافئة نطير بها من خلال القضبان..

وفي السجن الكبير الذي يسمونه "دنيا"، انشغلنا بمقارعة الحياة !

لم نتهيأ لمسابقة الموت !

آه.. ليس لي عُمْرٌ يكفي لأحلامي !

2- تحت هذه الشجرة

في مزرعة في "خان الشيح" قرب دمشق، نلتقي فيها كل عام، وكنا قد فقدنا حسن شاكر الذي رحل بتاريخ 10-12-2002 ، سأل إبراهيم سلامة(أبو عرب) مصطفى أبو زينة (أبو نضال):

-       قل لي يا أبو زينة، حينما تموت، تحت أي شجرة من هذه الأشجار تريد أن ندفنك؟!

ألقى أبو زينة نظرة على الأشجار أمامه وتوقف أمام شجرة المشمس القريبة،أجاب ببساطة وبهدوء وبابتسامته التي لا تفارقه :

-       تحت هذه الشجرة..

يومها، قال أبو عرب: الذي سيكون أكثرنا حزناً، هو من يكون آخر واحد فينا!

آخ.. يا أبو عرب، ألا تدري بأن الشاعر التشيلي بابلو نيرودا يقول:

يا لأَلمِ الذي يكونُ الأخيرَ في الأرض!

3- إنسانٌ اسمه: إسماعيل دبج

يقال أن صلاح الدين الأيوبي حين مات ترك وراءه فرسه، سيفه، ديناراً، و36 درهماً لكنه ترك تاريخا، ومجداً، وأمثولة..

وعندما مات إسماعيل دبج، وقبل أن يدخلوا جثمانه في براد "مستشفى أمية" في دمشق، وجدوا في ثيابه 200 ليرة سورية، لا غير!

هناك العديد من "المسائيل" في المقاومة الفلسطينية استغلوا الثورة واستغلوا مناصبهم و"لطشوا" الملايين، لكن لا نعثر لهم على ذرة من احترام.

لم يترك إسماعيل دبج وراءه قصوراً ولا ملايين من الأموال، لكنه ترك سيرة نبيلة، عطرة:

في عام 1951 في مدينة الزرقاء الأردنية خرج من رحم أمه.

في عام 1968 دخل الثورة الفلسطينية.

في عام1970 دخل الأسر الصهيوني.

في عام 1985 خرج من الأسر.

في 10-12-2006 خرج من الدنيا ودخل الآخرة.

حياته كانت قتالاً.. وأسراً.. ونضالاً.

ترك خلفه زوجة طيبة مؤمنة وأربعة أولاد متفوقين، ترك ثمانية كتب منها ثلاثة ترجمها عن العبرية، وترك خلفه سمعة طيبة والكثير من المحبة.

من بيننا، نحن الأسرى السابقين، كنت أفضلنا يا إسماعيل.

كنت لطيفاً، دمثاً، رقيقا، طوال الوقت، ولم تكن قاسياً سوى هذه المرة !

كنت كبير القلب.. عميق الروح.. جميل العقل.. طويل اليد على الخير.. غزير الكتابة ونوعياً، وكنت قليل الكلام، مختصراً، وكنت مختصرا أيضاً هذه المرة: رفَّ بطينُ قلبِك أربعَ رفّات.. وسكنتْ!

قال الطبيب: هذه أسرع وأسهل مِيتة !

لم تزعج أحداً في حياتك، ولم تزعج أحداً في موتك: لم تمرض مرضاً عُضالاً.. لم "ترتمِ في الفراش".. لم تدلق نفسك على أحد.. نعرف أن لديك "عزة نفس".. وأن الأخلاق لديك لا تتجزأ.. لم تكن ثقيلاً على أحد في حياتك.. ولم تكن ثقيلاً على أحد في موتك: رفَّ بطينُ قلبِك أربع رفّات..  ورحلتْ !

الآن.. عرفنا أكثر من ذي قبل، كم أتعبت قلبك كثيراً، كنت تضع فيه هموم الجميع، أما همومك فكنت تحتفظ بها لنفسك، كنت صديق الرجال، وكنت صديق المرأة ـ الإنسان..

كم تواصلتَ معنا: بوردة.. بتحية.. باتصال.. بمساعدة.. بمشاركة حُلْمٍ، وحملِ هَمّْ!

 كم "فضفضنا" لك من أحزاننا وقهرنا، ولم "تفضفض" حزنك وقهرك لأحد..

كم أفرحتَ من قلوب.. كم أغضبتَ قلبك، وأهملتَ "حق القلب" عليك..

كم مرة ساعدت الأسرى المحررين، والرفاق، والأصدقاء في حل أزماتهم المالية، وكم مرة أبقيت ضائقتك المالية لك.. ولأم أحمد، ولأولادكما الأربعة: أحمد.. ومثال.. ورواء.. وبراء!

من أين أتيت بمستودع الحنان.. ومن أين أتيت بهذا الصبر على الهمّ !!

هناك الكثير من "المسائيل" في الثورة الفلسطينية في الداخل والخارج، لكن من النادر أن تجد مسؤولاً.. قائداً.. وقدوة.

كم رأينا أشخاصاً من "المسائيل" منفِّرين، وكم كنت مسئولاً.. وقائداً.. وقدوة، كم كنت جاذباً: جاذباً للناس العاديين، للمرأة العجوز المرهقة في السوق التي كنت توصلها بسيارتك،  للأخوة وللرفاق،للأصدقاء، للمتطوعين، للكتاب والشعراء والمبدعين، للمذيعين في إذاعة القدس، وللمرأة الطيبة في المكتب صانعة القهوة والشاي !

4- حسن و إسماعيل: غرابة مدهشة !

من بيننا نحن الأسرى السابقين، كان أعز صديق لحسن شاكر هو إسماعيل دبج، وأعز صديق لإسماعيل دبج كان حسن شاكر.

حسن توفي في 10-12-2002، وإسماعيل توفي في 10-12-2006.

بقي جثمان حسن في "البراد" يومين ودفن في 12-12-2002، وبقي جثمان إسماعيل كذلك يومين في "البراد" ودفن في 12-12-2006.

 وفي مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك، لا يبعد قبر الواحد منهما عن الآخر أكثر من 5 أمتار!

سبحان الله! صداقة في الحياة.. صداقة في الموت !

5- سبب إضافي للحب !

نحبُّ إسماعيل دبج لخصاله النبيلة، وخاصة خصلة "الوفاء والإخلاص"، الوفاء والإخلاص في كل شيء: الوفاء والإخلاص للمبادىء، للقضية، للإنسان ولعمل الخير، للأصدقاء، للعمل وإتقان العمل..

 وثمة سبب إضافي لهذا الحب: إسماعيل أردني وليس فلسطيني!

لم يعط إسماعيل دبج فلسطين 15عاماً من عمره في الأسر في سجون العدو الصهيوني فحسب، بل أعطى كل عمره، كل عمره كان نضالاً في نضال.

"الأشاوس" في مخابرات بلده، الذين لا يحترمون المناضلين ويحبذون المخبرين، لم يستسيغوا أن يناضل إسماعيل في صفوف الثورة الفلسطينية، فخرج من الأسر في سجون العدو الصهيوني بعد أن قضى 15 عاماً وتم تحريره في عملية الجليل لتبادل الأسرى التي نفذتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة ـ عام 1985، وبعد تحريره من الأسر عاش ومات ودفن خارج بلده في بلد شقيق، ومات معظم أشقائه وشقيقاته في بلده وهو على قيد الحياة دون أن يتمكن من وداعهم أو المشاركة في جنازاتهم، وماتت أمه كذلك وهو على قيد الحياة دون أن يتمكن من وداعها  وطلب رضاها قبل انتقالها إلى الباري عز وجلّ.

هناك كثير من العرب والأجانب أعطوا لفلسطين، وخدموا قضيتها. إنهم فلسطينيون، انتماءً. وهناك كثير من الفلسطينيين فلسطينيين شكلياً (في الهوية!)، لكنهم ليسوا فلسطينيين، انتماءً، لم يعطوا لفلسطين، لم يضحوا من أجلها،لم يخدموها، بل إن بعضهم أساء لها.

يقول محمود درويش: الوطن هو الصراع، إذا صارعتَ انتميتْ.

6- يا وطن !

(قصيدة أهديها لإسماعيل دبج.. لمن قضى.. ولمن ينتظر !)

نُهديكَ وردةً مُرجأةْ

مُراهَقةً طارتْ.. وشيطنةْ

أَجملَ  غَزَلٍ نثرناهُ على تنانيرِ البناتْ

أجملَ مِقْلاعٍ صوفيٍّ

مِنْ أصابعِ جدَّتي

هتافَ أخي في جنازتي

نُهديكَ ما يجعلُ الروحَ عطشى

والمدى مدى

من نزيفِ البرتقالِ

حتى ذُرى الجُلجُلةْ

***

نُهديكَ حراستَنا على أسطحةِ البيوتِ

كَيْ  لا يَمُرّوا!

دعاءً ساخناً

وأرغفةً تمتدُّ لنا في الظلامْ

نهديكَ مُطاردَتَنا لَهُمْ

مطاردتَهُمْ لنا

وأعلاماً خاطتها الصبايا

على ضوءِ الشمعدانْ

***

لكَ أنينٌ كظمناهُ تحتَ الهراوةْ

ونشيدٌ رفعناهُ في الزنازينْ

لكَ بسمةُ طفلٍ وُلِدَ هذا الصباحْ

ولكَ فرحُ العائدينْ

يا أبانا

يا أمَّنا في المِحَنْ

يا وطنْ!

***

لكَ أوهامُنا المؤودَةُ

هُويتُنا المُشَرْنقةْ

تَعَبٌ جميلٌ

وأوَّلُ ثَمَرٍ من حدائقنا المعلَّقةْ

يا عِشْقَنا

يا حُلْمَنا

من القِماطِ.. إلى الكَفَنْ

يا.. وطنْ !

* كاتب فلسطيني، أسير سابق ومبعد، يقيم في دمشق.