الثـوب والعنب !

د.عدنان جابر

31 تموز 2007

 بين ثوب الخليلية وكروم الخليل خيوط من فجر وسحر. من المحال أن تجد امرأة خليلية تنكر العلاقة بين حليبها وعنب الخليل. كما لا يستطيع أخوتنا "التلاحمة" أن ينكروا صلة الرحم بين خمرة بيت لحم وعنب الخليل.

أُنظرْ إليهما كيف يتشابهان: ثديان وعنقودان !

يا سبحان الخالق.. وسبحان الجمال.

وانظر إليهما كيف يفعلان: يفيض العنب فيصير خمراً، تشربه "حتى تبصر الديكَ حماراً" أو.. تنام. ويكتظ الثدي بالحليب، يمصه الرضيع حتى يرتوي، فيهذي بكلام البراءة و.. ينام.

يحدث أن يكتظ الثدي كثيراً، فيسقي أطفالاً آخرين للأقارب والجيران أو يتضامن مع ثدي آخر لامرأة لا تملك صدراً عامراً، مع أن قلبها كبير.

ويحدث أن يكتظ الثدي كثيراً.. كثيراً.. فينزُّ على صدر الثوب المطرّز بأوراق الكرمة.. والعصافير.. والعناقيد .

تبارك الثديان والعنقودان !

هذه أُمُّنا، وتلك أمُّنا، فهل تعرفون أصعب الدموع ؟

إنها تلك التي نذرفها على صدر أُمٍّ أو.. على تراب وطن !

وقد يحتج الرجال على النساء فيقولون: أصعب الدموع دموع الرجال.

إن رأيت رجلاً يبكي فاعلم أن شيئاً كبيراً قد حدث.

وقد أقول: أصعب الدموع التي لا تنفجر، تبقى محبوسة في الحلق أو.. في القلب، على شكل قهر أو.. ذهول.

في المنفى، وحتى لا نموت من القهر، نحتفظ بأشياء من الوطن، نسمع أشياء عن الوطن، نطلب شيئاً يُذكِّرنا بالوطن، نلبس شيئاً من الوطن، حتى نحمل الوطن أينما ذهبنا:

مفتاح البيت، أغنية أو موّال عَتابا، حفنة رمل أو حجر، ثوب، حبة برتقال، مسبحة أو مزهرية من خشب الزيتون القديم من شوارع القدس العتيقة...

نفعل ذلك، ونعرف، مبكرين أو متأخرين، أن حمل الوطن في حقيبة مسألة عويصة، وأنه.. على الذكريات وحدها لا يحيا الإنسان !!

والثوب الفلسطيني غالٍ، ليس لأنه بثمنه قد تشتري عدة "فساتين"، بل لأنه من كتفيه.. إلى كُميّه.. إلى الصدر.. إلى البطن.. إلى الوركين.. إلى الذيل يكثِّف الوطن.

وفي المنفى ننشرح أو نبكي حين نبصر ثوباً فلسطينياً على عجوز شامخة، فنتملى تفاصيله بعيون عطشى، أو.. ندنو أكثر فنتحسسه بأنامل مرتعشة، برهبة وحنين، كما لو كنا نتملى أوراق الكرمة ونتحسس العناقيد.

... منذ الجدة الكنعانية نتصارع وإياهم على الثوب والعنب.

يخلعون الدوالي من الأرض، أو يدوسونها بالبلدوزر.

يريدون أن نمتلك ثوباً في المنافي، نبكي عنه أو عليه، أو نقيم له معرضاً نؤكد به هويتنا، وندعو له زوّاراً ليشاهدوه قبل أن تطرده "الفساتين"، كأنه كائن في سبيله إلى الانقراض.

ويتضاعف منفانا حين يأخذونه لأنفسهم، فتلبسه مضيفات شركة "ألعال"، عال.. العال !

يريدون الثوب والعنب، وإن تكرَّموا وتنازلوا: لكم الثوب.. ولنا العنب.

 وتختلط مأساتنا بملهاتنا عندما يطلبون منا أن نكون نواطير على عنبنا الذي سرقوه.

لهم العنب، ونحن النواطير، وللأمم المتحدة الصبر والسلوان !!

ما نفع الثوب بلا عنب ؟ وما نفع الأرض بلا إنسان ؟ نحن وإياكم والصراع مرير، ومثلما للإنسان أُمٌّ واحدة فإن له وطناً واحداً. والفلسطيني لا يعرف "الوطن الثاني بعد الوطن الأم" لأنه من شتاته وتشتته ستطول القائمة.

... الثوب والعنب لا ينفصلان !

التطريز على الثوب أصله هناك: تضاريس الكروم.

والغرزة على الثوب تأخذ فتنتها من هناك: حبة ندى على حبة عنب، قبل طلوع الشمس، وقبل أن تنطلق العصافير لتعلن صخب الحياة .

... تحيا الحياة !

حتى الآن لم أتكلم سوى عن ثوب الخليلية، ولم أتكلم إلا عن عنب الخليل، الذي ينادون عليه: "خليلي يا عنب"، وعند كتابة الشعر: "يا عنب الخليل"، كما فعل عز الدين المناصرة.

فما بالكم لو تكلمنا عن أثواب نساء عكا، وحيفا، ويافا، وعسقلان، وغزة، وخان يونس، ورفح، وبئر السبع، وبيت لحم، وبيت ساحور، وبيت جالا، والقدس، ورام الله، والبيرة، وبير زيت، والرملة، واللد، والعباسية، وقليقيلية، وشفاعمرو، وصفد، وطبريا، وبيسان، وأريحا...؟

... تعددتِ الأثوابُ والوطنُ واحدُ !

وما رأيكم لو تكلمنا عن قمح مرج ابن عامر، وبرتقال يافا، وحليب النوق عند بدو بئر السبع، وجوافة قليقيلية، ورُطب دير البلح، وجميز جباليا، وموز أريحا، والخير الذي يدره زيتون رام الله "الروماني"، والكنافة النابلسية، وخبز الطابون، وزعتر البراري...؟!

كيفِك يا فلسطين.. كيفِك يا بلدنا.. كيفَك يا وطن !!!

من أين تتلقاها يا وطن: من صهاينة عنصريين، أم من فاسدين متخمين، أم من "متدينين!" أرادوا علاج الفاسدين فكانوا على السلطة مفجوعين، متخلفين ومجرمين ؟!

يا خسارة حليب أمهاتكم فيكم، لو لم تولدوا أما كان أفضل ؟!

أضفتم إلى ظلام الاحتلال ظلاماً أشد، وأضفتم إلى "النكبة" نكبة جديدة !

من أين تتلقيها يا فلسطين !

هل يمكن، وكيف يمكن أن نعتذر لكِ عن تخلفنا ؟!

هل يعتذر القناع لقطرة دم ؟!

ماذا نقول للشهداء، لأمهات الأسرى الذين يحلمون بـ "يوم تفرح فيه الحزينة"، وماذا نقول للصغار الذين نربيهم على "موطني" و "عائدون" ؟!

يا بلدنا.. يا بلد !!

الأرض التي أنهكت ترابها وأشجارها جرافات الاحتلال، الأرض التي يحلم فلسطيني في المنفى أن يكون له قبر فيها، تشكو: خذلني أهلي !

... تفووووووو عاالتخلف !

يا فلسطين الجريحة، رجاءً لا تجرحينا أكثر، لا تسألي هذا السؤال: هل تستحقونني ؟!

... تصبحون على عقل !

... تصبحون على وطن !

... تصبحون على كرامة !

ستحدثُ أشياءٌ وأشياءْ، سيمرُّ نهرٌ، وسيمرُّ وقتْ، قبلَ أن نعبرَ هذا الظلام .

* كاتب فلسطيني من مدينة الخليل، أسير سابق ومبعد، يقيم في دمشق

في رقبته جرح، وفي قدمه 60 شظية من رصاص الأعداء.. لا الأشقاء، الحمد لله !

حائز على شهادتين: دكتوراة في الفلسفة، ودكتوراة في القهر !

ajaber@scs-net.org