سعيد العتبة يكتب من داخل السجن

" كأفراد فإننا واثقون من أنه، وبرغم الظرف السياسي السائد، سوف يتصدى الأسرى لهذه الهجمة الإجرامية عليهم "

 

كنت واحداً من الشبان الذين تفتحت عيونهم على الإحتلال الإسرائيلي عام 1967 حيث كان عمري ستة عشر عاماً. كنا طلبة في مدارس نابلس الشرقية حيث كانت بداية تنظيم أعمال المقاومة الشعبية ضد الإحتلال عبر التراشق مع الجيش الإسرائيلي وعبر حركة الفدائيين الناشئة في حينه والتي إرتبط جزء منها بالفصائل الفلسطينية التي بدأ تكوينها بشكل سريع وعلني في الأردن، وسري في الوطن كإنعكاس ورد فعل طبيعي لعدوان 67.

كان عدوان إسرائيل على قرية السموع جنوب الضفة الفلسطينية في شهر 10 عام 1966 إحدى مؤشرات ومقدمات التحضير لعدوانها الأكبر في 5/6/1967 لإستكمال إحتلال فلسطين وكانت إنعكاسات عدوان السموع، الإنتفاضة الشعبية العارمة التي حصلت عام 1966 في شهر 11 في الضفة الغربية التي كانت جزءاً من الأردن في حينها. وكان سقوط الشهداء والجرحى في أوج الصدام مع الشرطة تتويجاً لأسابيع من الإنتفاضة الشعبية وهم من أبناء جيلي الشهداء: "يوسف الشحروري"، "محمود جرادنة" وـ "الحنبلي" وغيرهم. كل هذا عكس نفسه على أجيال من الشباب الفلسطيني وأنا واحد منهم. في هذا المناخ كان إنضمامي للجبهة الديمقراطية. أخذت في الخارج دورات عسكرية سرية وقمت في هذا الإطار بتنفيذ عمليات تفجيرية وفق ظروف الحرب والصراع. وتم تنفيذ عمليات أوقعت خسائر مادية وبشرية وإستمر الأمر إلى حين الإعتقال.

إعتقلت في 29/7/1977 وأول سجن دخلته للتحقيق كان سجن رام الله. بعد الإنتهاء من فترت التحقيق نقلت إلى سجن نابلس القديم ومكثت هناك عدة أيام في الزنازين وبعدها دخلت الغرف لأقضي في هذا السجن كل فترة توقيفي إلى حين صدر بحقي حكم المؤبد في شهر حزيران عام 1978.

فترة التحقيق إستمرت ثلاثة أسابيع وكانت أساليب التحقيق إجرامية ومتنوعة فهناك أسلوب الشبح وقوفاً وربط اليدين بالكلبشات الحديدية ورفعها للأعلى بمستوى رأس الإنسان تقريباً موصولة بشبك الزنزانة الحديدي وإبقاؤه عدة أيام واقفاً على هذه الحالة. هناك أيضاً الضرب المباشر والشبح على الأرض بطريقة تؤدي في كل مرة إلى الإغماء فيقومون برش الماء على المعتقل ليصحو بالإضافة لأسلوب الضغط على الأعضاء ألتناسلية أثناء الشبح، هناك أيضاً أسلوب إجبار المعتقل على شرب الماء عنوة وعلى جلوس القرفصاء أو الوقوف بهدف إرهاق الجسد والتأثير على الدماغ والجهاز العصبي والعضلي، كما أن هناك أسلوب ربط الأرجل والضرب عليها بعصي خشبية غليظة بشكل منتظم ومتوال تؤدي بعد عدة ضربات إلى الوخز في الدماغ والرأس مباشرة، هناك أيضاً الضرب باليد عن طريق الكف بشكل محدب أو تركها مستوية والضرب على الرأس بضربات قتالية منتظمة من الجهة الخلفية وبشكل مدروس ووفق معيار طبي معروف، بالإضافة إلى الحرمان من النوم والحرمان من الأكل والشرب. وبرغم إستصدار المحكمة لقرارات حديثة تحد من إستعمال أساليب التعذيب هذه إلا أن المخابرات الإسرائيلية لا تزال، تحت غطاء الأمن المزعوم، ترتكب تلك الجرائم بحق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين والعرب.

بعد الحكم عليّ إنتقلت إلى سجن بئر السبع وكان السجن آنذاك يعيش حالة إضراب شامل وإمتناع عن الزيارات. كنت لا أزال معتقلاً جديداً ومندهشاً من كل ما أشاهده لكن مستعداً لمشاركة رفاقي في أية خطوة يقومون بها. بقيت في سجن بئر السبع مدة عام ونصف العام إنتقلت بعده، أي في عام 1980، إلى سجن عسقلان وأذكر أنني قابلت هناك الشهيد عمر القاسم الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة بين الأسرى وكان يعتبر قائداً. لقائي به أثر في كثيراً وشعرت بالإعتزاز والزهو لرؤية الشهيد القاسم.

كان سجن عسقلان قد مر بعدة مراحل شكلت محطات هامة في تاريخه، منها: الإضراب عن الطعام عام 70 والذي إستشهد خلاله عبد القادر أبو الفحم، أيضاً إضراب 76 الذي إستمر 45 يوماً وتبعه بعد ذلك إضراب إستمر 20 يوماً. لقد شكلت هذه الإضرابات محطات نوعية في حياة الأسرى مكنتهم من الحصول على فرشة بدل النوم على الأرض ومكنتهم من تثبيت أمر عدم العمل بالسخرة في مؤسسات الدولة.

في العام 1980 جاء إفتتاح سجن نفحة الصحراوي الذي صمم ليتسع لـ 800 أسير والذي إستهدف عزل قيادات الأسرى وإبعادهم وحصر تأثيرهم. ففاجأ الأسرى الإدارة بإضراب بعد شهرين وإستمر الإضراب 34 يوماً مما أدى إلى خلق إنجازات معنوية وإستشهد خلاله علي الجعفري وراسم حلاوة في نفحة وإسحاق مراغة في بئر السبع وأنيس دولة في عسقلان.

مكثت في عسقلان أربع سنوات ونصف، نقلت بعدها إلى سجن جنيد وتنقلت بعدها في سجون مختلفة إلى أن قرّرت إسرائيل، بعد إتفاق القاهرة المستمد من إتفاق أوسلو، نقل الأسرى الذين تبقوا في السجون، وهم فئة مميزة من ذوي الأحكام العالية، إلى سجون الداخل في عسقلان ونفحة والسبع وغيرها وهذا النقل يؤكد على تواصل تعامل السلطات مع الأسرى خارج دائرة القوانين الدولية وإتفاقية جنيف الرابعة فهذا النقل من الأرض المحتلة إلى داخل دولة إسرائيل يمنعه القانون الدولي. وإسرائيل عموماً لا تلتزم بإتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بالأسرى وبكيفية معاملتهم داخل السجون مما يجعل الأسرى متأثرين بشكل سريع ومباشر باللحظة السياسية الراهنة ولا شك أن الأوضاع السياسية الأخيرة أثرت بشكل سلبي ومباشر على حياة الأسرى وأدت إلى تراجع وإلى قضم هائل بالمنجزات التي حققوها على مدى سنوات من النضال والتضحيات. لقد قامت إدارة السجون مؤخراً بإجراءات عديدة منها:

- وضع الزجاج العازل في غرفة الزيارة بحيث يمنع الحد الأدنى من التواصل الإنساني المسموح به.

  - الغرامات المالية الباهظة التي تفرض على الأسرى والتي يبدو من خلالها أن مديرية السجون قررت تمويل ميزانيتها من جيب الأسرى وعلى حسابهم الشخصي.

-  مصادرة مواد التنظيف من الأسرى وإرغامهم على شرائها من الكانتين بمبالغ باهظة.

-   الإعتداءات الجسدية على الأسرى وتكرارها في الفترة الأخيرة.

 -  منع الزيارات بين الأقسام وغرف السجن.

-   إغلاق المكتبات التي يعتمدها الأسرى في السجون.

-   تقليص النزهة اليومية.

 -  التفتيشات المكثفة والإستفزازية والإذلالية.

-   وقف إدخال الأغراض من الأهل بإستثناء الملابس وبشروط صعبة للغاية.

 -  مصادرة الحقائب الخاصة بالأسرى وتخريبها.

-   التفتيشات الإذلالية للأهل أثناء زيارتهم لأبناءهم

  - وضع الصاج المباشر على حدود الأقسام في السجون.

وبما أن السياق العام للحركة الأسيرة كان دائماً التقدم للأمام ومراكمة الإنجازات لتحقيق شروط إنسانية أفضل تعزز نضال ألاسرى كحركة وكأفراد فإننا واثقون من أنه، وبرغم الظرف السياسي السائد، سوف يتصدى الأسرى لهذه الهجمة الإجرامية عليهم وسوف يعملون على تحقيق الشروط الوطنية والملائمة في قلب العمل الإعتقالي.

بعد 27 عاماً في السجن، الذي لم تنته أيامه بعد، أقول:

لم تتعبني هذه الرحلة الطويلة مع أن التعب صفة إنسانية وقد أكون مكابراً لو أنكرت ذلك لكن التعب مسألة نسبية فإذا كنت تعبت من السجن فهذا لا يعني أني تعبت عن حمل قضيتي وقناعاتي التي قادتني إلى السجن. لا زلت أملك الطاقة لأكمل. نحن كشعب لا نملك الكثير من الخيارات. المسألة هي أن نكون أو لا نكون. فإما أن تكمل بنفس الروح وإما أن تسقط وتنتهي كإنسان وكقضية.

إن من عاش تجربة السجن يدرك كم هي طويلة وقاسية لكنه يدرك أنه لا مكان للإستسلام. وأنا عندما أقف اليوم وأعطي شهادتي هذه وأنظر إلى ستة وعشرون عاماً من الأسر فإنني أرى صورة كاملة ذات وجهين: حالة وحشية وسادية وقمع يجسدهما السجان وحالة صمود وبطولة يجسدها الأسير الفلسطيني الذي إستطاع أن يحفظ بقاؤه كإنسان ويصون هويته كمناضل ويواجه هذه الظروف ويحولها إلى مدرسة ثورية حقيقية.

بقلم : سعيد العتبة (أبو الحكم) عميد الأسرى الفلسطينيين والعرب

5-7-2004