الأسيرة منال غانم .. ولدت في السجن  فأسمته "نور" رغم عتمة الزنازين

 

ولد في السجن فأسمته "نور" رغم القيود وعتمة الزنازين

"منال غانم" أسيرة نار انتظار الفرج وعدم الرغبة في اكتمال السنتين

22/3/2005

في ساعات من ليل بهيم.. بين أحضان تلك الجدران التي احلولكت بالسواد.. لتضم في ثناياها رائحة الموت كل لحظة.. وكأنها قبورا صممت لدفن الأحياء وقوفا.. بعد طول حرمان من الشمس والهواء والغذاء.. وضجيج الأبواب الفولاذية يؤز المكان.. حينما تلامسه طرقات دبسات خشبية.. رصصت بالمعادن لتكوي جنبات من يقع عليهم سخط الجلاد.. في ذلك السجن المظلم.. الذي يخفي داخله صنوفا من ألوان العذاب والقهر والحرمان.. ولا تسمع فيه إلا صرخات "شيكيت" و"تشتوك" بمعنى اصمت واحبس صوتك ولا تتكلم.. ممن تربوا في حظيرة شارونية.. وأصبحوا لا يتقنون إلا فن الإذلال.. بعد أن تجردت نفوسهم من أدنى معاني الإنسانية.. لتصاب بالخبث والنجس وهي تحرم ذلك الطفل الذي طالع لحظة ولادته داخل تلك الزنازين، وجوها مصابة بالمس.. أبت إلا أن تضع القيود في أطراف تلك الأم، التي استعصت على الانكسار، رغم آلام المخاض وقسوة الجلاد لحظة الولادة.

 

"نور" اسم نطقت به أسيرات سجن تلموند الصهيوني.. وهن يكابدن قسوة الممارسات الوحشية.. التي يرتكبها مجرمي العصابات الشارونية.. والتي لم تردعهم ولادة هذا الطفل -التي أبت أن تسميه والدته (منال غانم) ابنة مخيم طولكرم للاجئين إلا "نور"- من الاستمرار في تعذيب الأسيرات اللواتي سجن دفاعا عن حقهن وأرضهن وقدسهن.. بل ازدادت قلوبهم قسوة.. وتحجرت.. وكأنما ولادة هذا الطفل الذي أطل بفجر جديد قد أصابهم في مقتل.. بعدما شهدوا أن الأم الفلسطينية ما زالت تنجب الأسود، التي ستقوض عرشهم يوما ما.. فحرموا تلك الأم من العناية الصحية والرعاية المطلوبة.. ومنعوا عن ابنها الحليب والملابس.. بعد أن تكشف ما بداخلهم من حقد بغيض لكل ما هو فلسطيني.. حتى للطفل الرضيع.

 

بدأت قصة هذه الأم في أحد أيام شهر نيسان من عام 2004م حينما بدد الجنود الصهاينة بصرخاتهم "افتح الباب" وصوت بنادقهم التي تم حشوها بالرصاص.. هدوء تلك الليلة التي طوق فيها منزل أسرة (ناجي محمود غانم) التي طالما اكتوت بنار الاحتلال لفترات طويلة.وكعادته.. خرج ناجي غانم من منزله تحت وقع الرصاص والقذائف الصوتية.. وسط بكاء الأطفال وصراخهم من الخوف.. وإذا بالجنود يقفون على عتبات المنزل ويصرخون بأعلى صوت "إرفع يديك".. "واخرج بهدوء".. ثم طلبوا منه خلع ملابسه للتأكد من عدم حيازته للأسلحة، ثم طلبوا منه الاستلقاء على الأرض.. وبدا متوقعا أن يسألوه عن أخيه المطارد في ذلك الحين الشهيد (غانم محمود غانم) ابن كتائب شهداء الأقصى!!.. ولكنها الصاعقة التي كسرت زجاج الصمت وكأنها خنجر اخترقت الصدر تجاه القلب الذي بكى دما.. وألما.. حينما سألوه عن زوجته (منال غانم) للاعتقال..ليس باليد حيلة حيال ذلك المشهد الأليم.. الذي عجز فيه اللسان عن التعبير.. وفقد الجسد الحراك أمام صرخات الأطفال "أمي.. أمي.." -كما وصف لنا مشاعره لحظتها- كيف لا يصرخون وهم سيفقدون ذلك الحضن الدافئ.. وتلك اليد الحنونة التي تضع الخبز المغمس بعسل الحنان وشهد العطف في فمهم.. ولكنها الآن التفت بالقيود.. لتصارع القضبان وهي تمسكها شاخصة أمام هذا المشهد المرعب.. الذي ستغيب فيه طويلا عن فلذات أكبادها.. تحمل في أحشائها جنينا سيولد في الظلام.. ولعل المصير الغامض لهذا الطفل الذي لم يولد بعد!! أضاف الى حزنها أمواجا متلاطمة من الأحزان والآهات.

لقد تحول انتظار عائلة غانم للشقيق (سامر محمود غانم) الذي يقضي حكما بالسجن 8 سنوات.. الى انتظار وترقب لمصير هذه الأم التي رحلت عن أطفالها الى غياهب السجون.. لتلاقي مصيرا مجهولا يحمل المزيد من الآلام والأحزان.

منزل عائلة ناجي غانم تم تفتيشه بوحشية.. لم يترك أحد من الأطفال إلا وتم إرهابه وتخويفه.. والزوجة قد كبلت يديها بالأغلال.. وناجي ملقا على الأرض.. ينتظر جوابا لتفسير ما يحصل؟؟!!.. وإذا بغبار الحيرة ينكمش حينما نطقت شفاه الضابط الصهيوني بحدة وغضب "إن زوجتك تساعد المطلوبين وتؤويهم".وما هي إلا دقائق خيم فيها الصمت من جديد.. حتى توارت (منال غانم) عن الأنظار.. لتقاد الى مركز من مراكز التحقيق الصهيوني.. لتواجه أصنافا من العذاب.. والضغط النفسي.. فضلا عن الضرب المبرح.. والاستجواب لساعات طويلة.. مستغلين كونها حامل ووضعها الجسدي والنفسي.. علّهم ينتزعون منها الاعتراف.. كل ذلك بعيدا عن أعين الإعلام والرقابة.. سواء كان ذلك من لجان حقوق الإنسان أو المؤسسات الحقوقية أو الدولية التي تدعي الإنسانية.. ولكنها تغض الطرف عن تلك الممارسات التي أصبحت بادية للعيان.

"منال غانم".. اسم لمع في سجون الاحتلال.. حكم عليها بالسجن 4 سنوات.. أنجبت طفلين توأمين.. أحدهما توفي بسبب ما لاقته من تعذيب.. والآخر يعاني من مشاكل صحية.. طالع الحياة وأمه مكبلة اليدين والرجلين.. فأسمته "نور" علّها تجده يوما ما.. وهي تصارع الألم والقهر والحرمان من أبسط حقوق الأسير التي كفلتها كل الشرائع حتى اتفاقيات جنيف بشأن الأسرى.ولكن!!.. هيهات أن تقنع سجانا صهيونيا أن يكون إنسانا.. ولو للحظة واحدة من الزمن.. لأنه تشرب العنصرية، وحب قهر الآخرين، والتلذذ في إذلالهم.. فتم حرمان الأم من الحليب والملابس الخاصة بالطفل ومن الرعاية الصحية لها ولطفلها لتبدأ المواجهة!!...الأسيرات في سجن تلموند طلبن بعض الاحتياجات الضرورية من حليب وحافظات للطفل الرضيع.. قوبلت مطالبهن بالرفض.. فبدأن بالتصعيد من خلال رفض إدخال الوجبات الغذائية كخطوة أولى.. وإعلان الإضراب عن الطعام كخطوة ثانية.. ولكن إدارة السجن استمرت في طغيانها ورفضها.. فأخذن بالضرب على القضبان بقوة.. بما يملكون من أدوات طهي داخل زنازينهن.. رغم تلويح الإدارة بالعقاب واستخدام العنف لكبح جماح الأسيرات المنتفضات.. ولكن هذه الإدارة رضخت في النهاية حينما وجدت هذا الإصرار والتحدي في عيونهن وتصاعد وتيرة استنفارهن.. فسمحت بإدخال كميات قليلة من الحليب للطفل بعد طول انتظار.. ولعلهم ظنوا أن الحليب يصلح لصنع المتفجرات لذا يصنف في قائمة المواد الممنوعة والمحظورة في لوائح السجون.

 

لم تتوقف معاناة هذه المرأة عند هذا الحد.. فهي مريضة بالثلاسيميا.. بحاجة الى تبديل دمها كل فترة مما زاد الأمر تعقيدا وفاقم من تدهور صحتها لدرجة أنها تعيش بغيبوبة لفترات من الزمن.. وعلى الرغم من حالتها الصحية إلا أن ظُلام السجن ما زالوا يرفضون تقديم العلاج المناسب لها.. على الرغم من الإضرابات المستمرة من قبل السجينات لحل هذه المشكلة.. وكعادة إدارة السجن في اللامبالاة، ولكن هذه المرة رق قلبها فاكتفت بعزل الطفل الرضيع عن أمه لمدة 4 أيام فقط عقابا على الاحتجاج.ناجي غانم.. الذي يبيت ليله دون أن تعرف عيناه طعم النوم.. والذي حرم من رؤية طفله وضمه الى صدره بسبب الحواجز الحديدية التي باعدت بينهما.. ما زال ينسج آمالا من خيوط النور التي اخترقت فتحات الإبرة في أطراف بوابة الزنزانة التي يزيد سمك حديدها عن 10 سم.. هذه الخيوط التي تناقلتها نسائم البحر ليزداد صبره صبرا وهو يجتهد في تعويض أطفاله -إيهاب البالغ من العمر 10 سنوات و نفين 9 سنوات وماجد 7 سنوات الذي أصيب بالثلاسيميا أيضا- حنان الأم.. وهل سينام الأطفال على أنشودة عذبة التي طالما سمعوها من والدتهم قبيل الغفوة حينما تخرج كلماتها من بين شفاه الوالد الذي تشتم رائحة الدمع في كل كلمة جريحة تئن من ألم الفراق؟؟!!..

 

وكان آخر محطات ناجي -أسير القهر- هو التقدم بمناشدات الى الصليب الأحمر.. وأطباء بلا حدود.. وجمعيات حقوقية فلسطينية وإسرائيلية.. ومؤسسات إنسانية.. وحتى الى المجلس التشريعي.. والى الارتباط العسكري.. كل ذلك من أجل تقديم العلاج المناسب لزوجته وطفله.. ولكن الصهاينة ضربوا بعرض الحائط كل النداءات.القانون الصهيوني بشأن الأطفال الذين يولدون داخل السجون والذي ينص على إخراج هؤلاء الأطفال من السجن بعد أن يتم سنتين من عمره.. سيزيد من انكسار قلب الأم.. وربما توشك على الموت حينما ينتزع ابنها من بين أحضانها.. فهي ستقع بين نارين.. النار الأولى: انتظار انقضاء مدة 4 سنوات للخروج من السجن.. والنار الثانية: عدم رغبتها باقتراب لحظة اكتمال السنتين من عمر طفلها.. عندها لا تعد تراه إلا من وراء زجاج عازل وشبك سميك..

 

 وربما لا تراه لأن أسرتها حتى ابنها الأكبر إيهاب وابنتها نفين وزوجها محرومون من الزيارة بدوافع أمنية.. ولم يسمح إلا لماجد الابن الأصغر الذي لا يتحمل مسؤولية حمله طوال رحلة الزيارة بما فيها من مشاق وصعوبات.. ولقد عبرت منال عن رفضها لتطبيق هذا القانون الظالم قائلة "لن أسمح بأن يفارقني (نور) وإذا كان كذلك فالإفراج عني وعنه معا، وإلا أعلنت الإضراب المفتوح عن الطعام" هذا بحسب ما أكده من أفرج عنهن من الأسيرات ممن كنّ قريبات من زنزانتها.. وهذا ما زاد في مخاوف الزوج الذي قال معقبا "هذا هو أكبر مخاوفي رغم فرحتي بأن ابني سيخرج من السجن بعد عدة أشهر إلا أنني أخاف على أمه من الإضراب عن الطعام الذي سيعرض حياتها للخطر وهي المريضة بالثلاسيميا".. وقد ناشد في نهاية حديثة السلطة الفلسطينية على وضع زوجته مع باقي الأسيرات على سلم أولويات الافراجات المنتظرة مع تردده بإمكانية حدوث ذلك.وتبقى قصة (منال غانم) وابنها (نور) شاهدة على ما يمارس بحق هذا الشعب الأعزل من أساليب وحشية واضطهاد وما يعانيه أسرى الحرية من إذلال وقهر وحرمان.. ليسجل في التاريخ كيف أن إرادة هذه العائلة المنكوبة انتصرت بصمودها على من انتزعت من قلوبهم الانسانية.. طغاة العصر.. من يملكون أعتى قوة في العالم ولكنها أوهن من بيت العنكبوت أمام تحدي شبل من أشبال فلسطين.

مع تحيات تقرير الأسرى الفلسطينيين

22/3/2005