سونا الراعي مثال حي

صمود المرآة الفلسطينية خلف قضبان النازية الإسرائيلية

بقلم / مهند صلاحات

10 تموز 2004م

يقول نيلسون مانديلا « لا يسلب السجن حرية الإنسان وحسب، بل يحاول أن ينتزع إنسانيته، فكل واحد من السجناء يرتدي ملابس من الطابع نفسه، ويأكل الطعام نفسه، ويتبع الجدول اليومي نفسه من العمل والروتين، إضافة إلى كبت الحرية، فالسجن نظام استبدادي قهري لا يقبل الاستقلال أو تميز الشخصية، وعلى المناضل بحكم أنه مناضل وبحكم كونه إنساناً أن يقاوم طغيان السجن وأن يحول دون أن تسلب منه كل تلك الخصائص ».

لكن الفلسطيني يبدو مختلفاً بعض الشيء فهو يسعى لأن يكون «طليقاً في سجون الوطن» كما قال الشاعر محمود درويش، لأن سجون الوطن على ضيقها أرحب من منافي الخارج على اتساعها، إنه يبحث عن وطن داخل زنزانته، يريد أن ينتزع هويته الوطنية من براثن الاحتلال، يضع حداً للهجرة القسرية عن بلاده، ومن أجل أن يسجل موقفاً وطنياً سياسياً واعياً ضد سياسة الترانسفير لا بد له من التشبث بالأرض كجذور الصبار، بل إن البعض دفعت بهم الرومانسية الوطنية إلى العودة من الخارج وهم يدركون أن المخابرات الإسرائيلية ستلقي القبض عليهم عند نقاط العبور في منفذ رفح على الحدود مع مصر، أو على جسور نهر الأردن عند العودة إلى الضفة الغربية .

ومثل هذا الشخص العائد شوقاً وحنيناً إلى أرض الوطن ينقل مباشرة إلى زنازين التحقيق، وهناك يتناوب على المعتقل العديد من ضباط المخابرات، مستخدمين شتى الأساليب والوسائل لانتزاع اعتراف أمني منه قد يكون مبالغاً فيه، ومليئاً بأمور لا تمت إلى الحقيقة بصلة بقدر ما هي من نسج خياله، حتى يخلص من تلك المرحلة العصيبة من مراحل التحقيق التي يواجه فيها الضرب المبرح على كافة أنحاء جسده، والإهانات الجارحة لكرامته الشخصية، والضغوطات النفسية الهائلة، والتي هي الفاتورة المستحقة التي دفعها نصف مليون فلسطيني أمضوا سنوات غالية من أعمارهم خلف القضبان منذ العام 1967. هكذا يعود الفلسطيني إلى وطنه سجيناً إذا ما راوده حلم العودة، وترجم ذلك إلى فعل وممارسة، وهذا ينطبق على من تم تسربهم خارج الأرض المحتلة بحثاً عن العمل أو الدراسة أو هروباً من ملاحقة السلطات الإسرائيلية، إضافة إلى الحيل التي تلجأ إليها إسرائيل لتفريغ الأرض من سكانها الأصليين.

الاعتقال يتم من البيت ومكان العمل والشارع والمدرسة والجامعة والمسجد وفي كل مكان يتواجد فيه المطلوب أمنياً، ويتفنن رجال المخابرات في إلقاء القبض على أناس عزل وأبرياء حيث ينتزع الطفل من أحضان أمه، والأمهات يتم تقييد أيديهن وأرجلهن بالسلاسل على مرأى من أولادهن وأقاربهن.

لقد حولت إسرائيل الأرض المحتلة إلى سجن كبير تمارس فيه كل ألوان الاضطهاد والظلم والوحشية، وهناك سبعة عشر سجناً تضم بين جدرانها الأطفال والشيوخ والنساء والشباب وكافة فئات المجتمع، حيث لا يتورع رجال «الشاباك» عن اعتقال أي شخص والزج به في غياهب السجون بمحاكمة صورية ودون محاكمة، وهو ما تطبقه على عرب 1948، ويقال بعد ذلك إن إسرائيل التي تمارس أقسى ألوان التمييز العنصري دولة ديمقراطية.

إن اعتقال الناس لأتفه الأسباب ووضعهم في الزنازين الرطبة اللعينة وإغلاق البوابات الحديدية عليهم بإحكام لم يغير من طبيعة الأشياء، وكذلك فإن الضرب المبرح والتعذيب بالسياط والصدمات الكهربائية وعمليات الشبح، وإجبار المعتقل على عدم النوم، قابله هجوم وطني مضاد، وأيقظ روح المقاومة لدى الشعب الفلسطيني، إذ أن المعتقلات بما تضم من كوادر وقيادات وطنية راقية هي صانعة القرار الجماهيري، وملهمة الشعب على الاستمرار في معركة المجابهة والتحدي.

هناك أطفال لا تتجاوز أعمارهم الأربعة عشر عاماً داخل هذه السجون الإسرائيلية التي تضم أكثر من ثمانية آلاف معتقل في ظل الانتفاضة، وقد حذرت جمعية أصدقاء المعتقل والسجين ومقرها مدينة الناصرة من الأوضاع الصعبة التي يعيشها هؤلاء الأطفال الفلسطينيون المحتجزون في سجن (تلمود) الإسرائيلي، وقالت إن أوضاع الأطفال المعتقلين خطيرة للغاية، وأنهم يتعرضون للظلم وللمعاملة السيئة، إذ تقوم إدارة السجن والأجهزة الأمنية الإسرائيلية بفرض الحصار عليهم وتهديدهم بالقمع والتفنن في أشكال التعذيب، كما أغلقت إدارة السجن المكتبة التي كانت تفتح كل أسبوع مرة واحدة، وهذا يعني المزيد من الضغط النفسي على الأطفال الذين سيعيشون في فراغ قاتل حين تسحب الكتب من بين أيديهم إضافة إلى حرمانهم من عنصر التعلم والتثقيف. وكشف تقرير مفصل أعلنته المحامية السويدية بيرغيتا الفستروم حجم الإرهاب الفظيع الذي تمارسه المحاكم الإسرائيلية في حق أطفال فلسطينيين يعتقلون ويستخدمون رهائن لابتزاز أهلهم، وجاء التقرير بعد يوم، وجاء التقرير بعد يوم على عودة الفستروم إلى استكهولم من مهمة كلفتها السويد تنفيذها في إسرائيل لمراقبة الجهاز القضائي هناك.

وترك التقرير صدى واسعاً في السويد، إعلامياً وسياسياً، إذ أبرزت المحامية الفستروم صوراً ووثائق تمكنت من جمعها من السجون والمحاكم في الدولة العبرية، تثبت تورط القضاء الإسرائيلي في عمليات التعذيب التي تمارسها أجهزة الأمن في حق الأطفال الفلسطينيين. إن المحاكم الإسرائيلية تسمح للجيش باعتقال فتيات صغيرات لاستخدامهن ورقة ضغط ضد أقاربهن وأهلهن، وإجبارهن بطرق وحشية تتنافى والمباديء الإنسانية على الاعتراف بأمور لا دخل لهن بها، حيث تحتجز الفتيات الصغيرات دون محاكمة، ويمنع أهلهن من رؤيتهن لمدة ستة أشهر دون محاكمة وهو ما يسمى بالاعتقال الإداري، كما حدث مع إحدى الفتيات التي تعرضت لمثل هذا الاعتقال التعسفي، والتهمة الوحيدة التي وجهت إليها أنها لم تعترف، بحسب إرادة المحكمة، بأن أختها تمارس نشاطات معادية لإسرائيل.

إن هذه الفتاة كما غيرها تعرضت لأبشع أنواع التحقير والتعذيب التي تتنافي وحقوق الطفل والإنسان والسجين، إذ جلدها المحققون وعرضوها لصعقات كهربائية والماء البارد، وعروها وقيدوها إلى سرير داخل زنزانة يومين دون حراك، ثم أبقيت في السجن الانفرادي 12 يوماً، تعرضت خلالها لأبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، إذ كان الجنود الإسرائيليون يقفون خارج باب الزنزانة ويطلقون تهديدات مستمرة بأنهم سيغتصبونها جماعياً.

أما بخصوص المناضلات الفلسطينيات في السجون الإسرائيلية فليس حالهن أفضل من حال الأطفال أو بقية المعتقلين، فهناك ثمانية منهن وضعتهن السلطات الإسرائيلية مع المعتقلات اليهوديات الجنائيات ومن ذوات السوابق في محاولة محمومة لإلحاق العار والعذاب النفسي والمعنوي بهن، ومن المعروف جيداً في مثل هذه الحالة أن إسرائيل لا تميز بين ما هو أخلاقي ولا أخلاقي، وتسعى لإزالة الحدود بين القيم والأخلاق الوطنية لدى المناضلين والمناضلات وبين القيم الفاسدة لدى الطبقات الدونية في إسرائيل المليئة بالشواذ واللصوص والساقطات، إنه نوع فظ من الانتقام والإذلال والضغوط النفسية حيث يتم الاعتداء الجنسي على الأطفال في الزنازين من قبل ضباط المخابرات وعلى الكبار، كما تهدد المعتقلات بمثل هذه الأعمال الشائنة، ويسحبن من شعورهن، ويضربن من قبل السجانات. وحسب إحصائيات الأمم المتحدة فإن أكثر من عشرة ألاف فلسطينية دخلن السجون الإسرائيلية، وكثيرا منهن أنجبن أطفالهن وراء القضبان.

الرفيقة المناضلة المناضلة سونا الراعي نموذجا حيا :

المناضلة سونا الراعي من طولكرم التي تقبع في سجن الرملة لقضاء فترة عقوبة مدتها ثلاثة عشر عاماً تعيش على ذكرى لقائها مع ابنها في السجن منذ عام ونصف حيث تركته رضيعاً، وعندما التقته كان عمره ست سنوات، وحين تخرج سيكون في بداية مرحلة المراهقة، مثل هذه الأم التي تترك وليدها في المهد وتخرج للقيام بعملية عسكرية انتقاماً لشقيقها الشهيد تعبر عن مستوى عطاء المرأة وتضحياتها من أجل الوطن.

الرفيقة الراعي جرأة وثورة لا تموت في قلوب الثوار (شهداء الاشتراكية والتحرر يبقون أحياء في قلوب الناس وعمرهم أطول من عمر جلاديهم, لأجلهم أرواحنا تهون)

ما أكثر اللحظات، العابرة في حياة الإنسان، يتمنى فيها لو لم يلد، أو يتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه ليتخلص من مواجهة بعض المصاعب التي لم تكن بالحسبان، والتي ما خٌيٍّل إليه يوماً أنَّ بالإمكان تعرضه لها أو مواجهتها... هذا الإحساس هو تماماً ما شعرت فيه الرفيقة سونيا الراعي حين وجدت نفسها تتلقى نبأ استشهاد أخاها إبراهيم, لم يخطر ببال احد ما يمكن أن تقوم به هذه الفتاة الثائرة القادمة من جذور كنعان وتراث جالوت الغاضب العاشق لأرض فلسطين, هل يمكن للنواح أن ينسيها إبراهيم وأي شيء بالدنيا يمكن أن ينسى ثائرة حقها في أرضها المسلوبة من قطعان الصهاينة, وأخاها الذي اغتاله الصهاينة بكل جبن في زنزانته بعد أن أيقنوا أن هذه الصخرة التي تسمى إبراهيم صعب أن تتفوه بكلمة واحدة عن رفاقه الأبطال, لقد اتخذت سونا قرارها بعد سنوات قليلة من إغتيال إبراهيم.

قامت سونا الراعي على عاتقها في نيسان عام 1997، وهي متزوجة لها أولاد، بعملية عسكرية من تخطيطها وتنفيذها الخاص، جزئياً للانتقام لأخيها الشهيد إبراهيم الراعي بعدما إيمانا منها بدور المرآة الفلسطينية الثوري في النظام واستكمال دورها التحرري الوطني.

فقد هربت سونا مسدساً مربوطاً على ساقها عبر الجهة الأردنية من الجسر (الحدود مع "إسرائيل") وعندما وصلت إلى الجهة الصهيونية فتحت النار على الصهاينة قاتلي أخاها ومغتصبي أرضها مما أدى إلى إصابة عدد من الجنود الصهاينة بجروح، وعندما انتهى رصاص مسدسها أصيبت والقي القبض عليها، ووضعت في السجن لتحرم الحرية وترسم على جدران الزنزانة أسمى آيات الكبرياء الثوري الراقي وها هي تقضي عقوبة بالسجن لمدة ثلاثة عشر عاماً في زنازين الصهيونية.

تلا هذا الهجوم واعتقال البطلة سونا قيام النظام الأردني بتسليم زوج سونا للسلطات الصهيونية حيث تعرض للتعذيب لمعرفة دوره في العملية التي قامت بها زوجته بعد أن فشلت المخابرات الأردنية في إجباره على الاعتراف بما لم يفعله، كما تفعل المخابرات العربية عادة

سونا الراعي والتي تعتبر أقدم معتقلة فلسطينية والتي كانت اعتقلت على جسر الملك حسين قبل أكثر من ست سنوات عندما كانت قادمة من الأردن، فهاجمت جندياً إسرائيلياً. ومن بين الأسيرات اللواتي اعتقلن فتيات صغيرات وأمهات قضين فترات طويلة من أعمارهن في سجون الاحتلال ماجدة سلامة، زهرة قرعوش، ربيحة ذياب، امنة منى ، احلام التميمي ، سميحة حمدان وغيرهن، وشهدت أكبر حملة اعتقالات للنساء الفلسطينيات بين عامي 1987 ـ 1996 وهي فترة الانتفاضة الأولى، وتعرضت الأسيرات لكل أشكال التعذيب والتنكيل.

ومثل بقية زميلاتها الأسيرات خاضت سونا تجارب نضالية في داخل السجون الإسرائيلية كالإضراب عن الطعام في سبيل تحسين شروط اعتقالهن، والتصدي لسياسات إدارة السجون القمعية. وطالبت الأسيرات بفصلهن عن السجينات الإسرائيليات الجنائيات، وتحسين الطعام، وتوفير العلاج الصحي، والسماح باقتناء الكتب والراديو والصحف، وتبادل الرسائل مع الأهل، وإدخال الملابس والأغراض عبر الزيارات ووقف سياسة القمع والتفتيشات الاستفزازية من قبل السجانات.

ومن الصعب سرد معاناة الأسيرة الفلسطينية والثورية المثالية الرائعة ,إكباراً لمواقفها البطولية وتضحياتها من أجل زميلاتها في المعتقل فإن الشعب في الأرض المحتلة يردد بيت الشعر القائل:

فالأم التي لم تودع بنيها إلى الزنازين لم تحبل ولم تلد

إن المرآة الفلسطينية التي كانت سونا مثالا حيا عنها قدمت بسخاء دفاعاً عن شرف الأرض، ووقفت في نفس الخندق وجنباً إلى جنب مع الرجل في هذه المعركة البطولية على امتداد سنوات الاحتلال، تسلحت بالفكر السياسي، وخاضت الإضرابات وقاومت الاحتلال بكل الوسائل المتاحة، وحملت القنبلة والصاعق المتفجر والسلاح الفردي وخاضت بكل جسارة العمل العسكري والسياسي والنقابي والاجتماعي، ونفذت العمليات الاستشهادية.

كانت سونا ولا تزال مثالا حيا على حقارة الاحتلال الصهيوني وقذارته, وبنفس القوت أثبتت أن بطلا مثل إبراهيم الراعي لا يمكن أن ينسى بهذه السهولة وأن عمره أطول من عمر جلاديه لذلك بقي حيا في قلب سونا التي لن تندم يوما على قيامها بقتل جلادي إبراهيم ليظل إبراهيم شاهدا حيا على شهداء الإنسانية وعلى بشاعة الإمبريالية العالمية التي تنهش أجساد الأبطال في العالم.